يعتمد الوعي الإنساني بالآخر على عدة عوامل، بعضها يحتاج إلى الخبرة والدراية لفهمها وفهم أبعادها، وإن كانت تترك أثراً فورياً على الشعور، والبعض الآخر أبسط قليلاً، كما في "الكلمة" التي يفهمها السواد الأعظم.
وفي مجتمعنا العربي عامة، والعراقي تحديداً، نستخدم لغة عالية الاحترام، شديدة التهذيب، ننتقي المفردات كما ينتقي المرء من الجواهر أفضلها وأنقاها، وهو ما يجعل الآخر مستريحاً في حدوده الشخصية، قادراً على التركيز على أهداف اللقاء المُعلَنة، بعيداً عن ثقل المشاعر الشخصية والاعتبارات غير الضرورية الأخرى.
ثم جاءت الموجة الأمريكية التي آمن بها الجميع دون نقاش، والمستلة من قواعد قد تكون مناسبة للمجتمع الأمريكي بأحسن تقدير، والتي قد تكون – في حقيقة الأمر – غير مناسبة، وغير لائقة بأحد مطلقاً، سوى مجموعة من المهرطقين على الإنترنت الذين مُنحوا منصات للتحدث والتشدق ونيل الشهرة.
ومن بين أجمل ما كان سائداً في اللهجة العراقية أمورٌ أربعة أقف عندها بكثير من التقدير:
أولها: ألا يُذكر الاسم في المحادثات العامة مطلقاً، باعتباره حرمة من الحرمات، فيُستعاض عنه بـ "عفواً"، "بلا زحمة"، "من رخصتكم"، وما إلى ذلك، للفت الانتباه قبل طلب شيء ما أو التحدث عموماً. وعند الاضطرار لاستخدام الاسم، يُسبق بلفظة "أستاذ/ست"، "دكتور"، "مهندس"، "حضرتك"، وغيرها، لإضافة غلالة على الاتصال البشري تُذكّر بحفظ حدود الود والاحترام، وتؤكد على ضبط النفس، وتقديم التفهم والتعقّل على التسرّع ودفقات الشعور المهتاجة.
ثانيها: استخدام صيغة الجمع وعدم استخدام الضمائر المفردة عند التحدث مع الأشخاص الأكبر سناً، أو الأعلى مقاماً، أو الغرباء، أو ممن لا تربط بينهم علاقات خاصة، بل علاقة عامة.
إن هذا الأسلوب يُؤطر العلاقات بوضوح، ويرسل رسالة مفادها أن ما يحضر في هذه اللحظة الاتصالية هي الذوات العامة، وأنك تتحدث حينها لا كفرد يطفو في الزمن، بل ككيان يحمل إرثاً وتأريخاً، مستحضراً شرف أسرتك وسموّ قيمك وعمق نظرتك، ومستودِعاً الكلام سمعتك المستقبلية. وهذا الثقل الممنوح للكلمة يُهذّبها ويزيدها رزانة وسداداً، فهي ليست عابرة، بل هي تعبير عنك، وكل ما يرتبط بك، وتمتدّ منه ويمتدّ منك، هي حالة دائمة من رسمٍ لقصتك بكلماتك.
ثالثها: إن اللغة العربية، واللهجة العراقية تحديداً، غير آمرة إلا مع الطفل أو عند شحذ الهمم، ففي الحديث المعتاد نقول: "إذا تسمحون"، "من يصير لكم وقت"، "بلا زحمة عليكم"، "بلا أمراً عليكم"، "من فضلكم"، "لو تحبون"، "حسب ما تشوفون"، وغيرها من العبارات التي تضمن عرض الموضوع بصراحة، وتترك مساحة للآخر أن يقرر ما يشاء دون ضغط، مع كثير من الاعتبار لتجربته الحياتية ورؤاه الشخصية.
وأخيراً: التورية، فلا يُصرَّح بالمواضيع الحساسة، أو التي لها وقع أليم أو مزعج أو مقلق، أو ببساطة تشكّل جزءاً من الخصوصية، بل يُستعاض عنها بكلمات أخف، وتُستخدم كلمات تدل على المعنى، مثل "ذلك المرض" إشارة إلى "مرض السرطان"، و"ارتباط"، "العائلة"، "أم/راعي البيت" بدلاً من "زواج" و"الزوج/الزوجة"، لما في المفردات الأصلية من ألم أو درجة عالية من الخصوصية.
وهو ما يمنح المحادثة العامة بهاءً ونبلاً، فتمرّ على القائل والسامع مروراً حسناً، فيُدرَك المعنى دون أن تمتعض النفس أو تشعر بأن حدودها مخترقة. فقبل أن تصبح أسرار العائلات على الشاشات بشكل مجاني وفاضح، كان كل شيء يُعدّ سراً من أسرار المنزل التي لا تخرج خارج الأبواب مهما حصل – ولذلك في إفراطه مساوئ لا ننكرها في مقالنا هذا –، ولذلك عندما يضطر المرء للولوج في خصوصيات المقابل، يدرك أنه في أرض مقدسة، حرم الآخر الذي يجب ألا يُهتك، لذلك يلج بكثير من الحذر والمراعاة والانتباه.
إن اللغة العربية، بلهجاتها المختلفة ومنها العراقية، تضع الاحترام عنواناً، وتُؤطّره بطرق عدة ذات قيمة عظيمة ومُهذِّبة للناطقين بها، طرقٍ صنعها تراكم الأزمان، وهذّبتها الحضارات والأديان المتعاقبة.
ووجود من يستخدمها على نحو خاطئ لا ينفي أصالتها، ولا يأخذ ببريقها، ولا يُضيّع معانيها، فهي تؤكد على حماية الشعور والخصوصية بعزلها عن الأماكن العامة، وتضع حدوداً تلقائية لمستخدمها دون جهد منه، وتجعل الأحاديث الودية الحميمة للمقرّبين، وتؤكد على استخدام لغة لائقة للمكان والزمان المناسبين، وتمنح العلاقات الإنسانية تصنيفات لا يحدث فيها لبس، ولا تشتبه فيها الصفات والمراكز والتسميات، وتُحقّق بذلك الإنجاز المنشود للأهداف المقرّرة للاجتماع الإنساني، فلا تتبدد الجهود نتيجة لطغيان "شعور الأنا" في مساحات العمل، ولا تغمر الأحاديث الخاصة سماتٌ رسمية، بل إنها تشجّع على استخدام أسلوبين مع الشخص ذاته في اليوم ذاته إن تباينت الأدوار خلال ذلك اليوم.
إن تقدير الآخرين وحماية حدودهم، لغةً وفعلاً، هو تقدير للنفس وحماية للحدود الشخصية، فهي دعوة ذات سطوة للآخر للتعامل بالمثل، وتشجيع لخلق بيئة قائمة على مبدأ "لكل مقامٍ مقال"، مما يُسكن العقل ويُذهب عنه الارتباك.
اضافةتعليق
التعليقات