جاءت السيّدة زينب إلى أبيها الإمام أمير المؤمنين (ع) يوماً وهي تحمل أخاها العبّاس (ع)، وقد ضمّته إلى صدرها، وقالت له: أبه يا أمير المؤمنين، ما لي أرى قلبي متعلّقاً بهذا الوليد أشدّ التعلّق، ونفسي منشدّة إليه أكبر الانشداد؟ فأجابها أبوها الإمام أمير المؤمنين بلطف وحنان قائلاً: وكيف لا تكونين يا أبه كذلك وهو كفيلك وحاميك؟ فقالت السيّدة زينب بتعجّب: إنّه كفيلي وحاميني؟! فأجابها (ع) بعطف وشفقة: نعم يا بُنيّة، ولكن ستفارقينه ويفارقك، فقالت السيّدة زينب باستغراب: يا أبتاه، أيتركني هو أم أتركه أنا؟ فقال الإمام أمير المؤمنين (ع) وهو يجيبها بلهفة ولوعة: بل تتركينه يا بُنيّة وهو صريع على رمضاء كربلاء، مقطوع اليدين من الزندين، مفضوخ الهامة بعمد الحديد، ظامٍ إلى جنب الفرات، فلم تتمالك السيّدة زينب لمّا سمعت ذلك حتّى أعولت وصاحت: وا أخاه! وا عبّاساه!
حياته
أبو الفضل العباس بن علي بن أبي طالب، الملقب ب"قمر بني هاشم"، فأبوه هو الإمام عليّ ابن أبي طالب الإمام الأول، وأخواه هما الحسن بن علي والحسين بن علي الملقبين بسيدا شباب أهل الجنة، وأمه أم البنين واسمها فاطمة بنت حزام، وأرجع بعضهم نسبها إلى عامر بن صعصعة، وينقل أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال لأخيه عقيل بن أبي طالب وكان نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم: "ابغِني امرأة وقد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً، فقال له: أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس، فتزوجها علي عليه السلام وأول ما ولدت العباس عليه السلام".
وقد ذُكر عن أم العباس عليه السلام: "وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقَرْي الأضياف، وأما أسرتها فهي من أجلّ الأسر العربية، وقد عرفت بالنجدة والشهامة، وقد اشتهر منهم جماعة بالنبل والبسالة.
ولد العباس عليه السلام سنة 26هـ واستشهد في سنة 61هـ وعمره أربع وثلاثون سنة عاش منها مع أبيه أربع عشرة سنة وحضر بعض الحروب فلم يأذن له أبوه في النزال، يقول السيّد عبد الرزاق المقرّم: "هذه الفضائل كلها وإن كان القلم يقف عند انتهاء السلسلة إلى أمير المؤمنين فلا يدري اليراع ما يخط من صفات الجلال والجمال وأنه كيف عرقها في ولده المحبوب؟ قمر الهاشميين".
كما يقول أيضاً: "وقد ظهرت في أبي الفضل لشجاعتان الهاشمية التي هي الأربى والأرقى فمن ناحية أبيه سيّد الوصيين، والعامرية فمن ناحية أمه أم البنين وروي عن جعفر الصادق "كان عمنا العباس بن عليّ نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله عليه السّلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً".
وقد عاصر العباس الحروب التي خاضها أبوه والأحداث التي عصفت بالأمّة الإسلامية كمقتل عثمان بن عفان، ثم بيعة أبيه والنكث بها من قبل البعض، ثم معركة الجمل، ومعركة صفين، ومعركة النهروان، وقد لُقّب بالسقّاء وقمر بني هاشم، وبطل العلقمي، وسبع الغضنفر، وسبع القنطره ، وجيدوم السرية أي (مقدام السرية)، وحامل اللواء، وكبش الكتيبة، والعميد، وحامي الظعينة، وباب الحوائج، وكُنيّ بأبي الفضل، وأبي القربة، وأبي القاسم.
منزلة قمر بني هاشم
الامام زين العابدين (عليه السلام) الملازم والشاهد المعاصر لعمه العباس ترحم عليه وقال فأبدله الله بجناحين، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة وأن للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.
وأما الامام الصادق (عليه السلام) بعد أن قال كان عمّي العبّاس بن علي (عليه السلام) نافذ البصيرة، صُلب الاِيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً.
بين لنا سمو مكانة ومنزلة عمه العباس في الزيارة التي وردت بلسانه (عليه السلام): وبين فيها جلالته وترافقها شاهدة امام معصوم عن العبد الصالح أبا الفضل العباس فقال سلام الله، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين، وأشهد لك بالتسليم، والتصديق، والوفاء، والنصيحه لخلف النبيّ المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم.
فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت، واحتسبت، وأعنت فنعم عقبى الدار أشهد، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته، واستجاب لدعوته، وأطاع ولاة أمره... إلى آخر الزيارة.
نقاء التضحية
إن الأخوّة الصادقة التي عبر عنها العباس تجاه أخيه الحسين (عليه السلام) كانت مثلاً أعلى في التضحية والثبات على المبدأ إن أغلى شيء عند الإنسان هي حياته وهذا الأمر لا نقاش فيه لكنّ العباس (عليه السلام) جعل هدفه الأعلى في هذه الحياة هو التضحية بالغالي والنفيس من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة أخيه الحسين (عليه السلام).
حاول العديد من قادة جيش ابن سعد التأثير على معنويّات العباس وإعطاء الأمان له ولإخوته بغية الانفراد بالحسين (عليه السلام) وتضييق الخناق عليه لكنّ العباس تصدّى لهذه المحاولات وأفشلها فشلاً ذريعاً، تتحدث كتب التأريخ بأن المدعو (عبد الله بن أبي المحل) ابن أخ ام البنين ذهبَ إلى ابن زياد وطلب منه تزويده بكتاب يعطي بموجبه ابن زياد الأمان للعباس وإخوته إن هم تركوا الحسين (عليه السلام) فرحّبَ ابن زياد بهذه الفكرة وبادَر إلى كتابة كتاب بهذا الشأن ومن ثمّ أعطى هذا الكتاب إلى المدعو (كرمان) وكان هذا خادماً عندَ ابن أبي المحل وتوجّه هذا نحو العباس وأعطاهُ الكتاب وما أن قرأه العباس (عليه السلام) حتى رّدَّ على كرمان ما نصُّه: اقرأ خالي السلام وقل له أن لا حاجةَ لنا في أمانكُم فأمان الله خيرٌ من أمان ابن سمية فعادَ هذا خائباً، حاول الشمر بن ذي الجوشن إعادة الكرّة مرّة أخرى لأنّه كان يعلم بأنّ العباس هذا هو الذراع الأيمن للحسين (عليه السلام).
اضافةتعليق
التعليقات