لقد راج في العقود الثلاثة الأخيرة كثيراً مفهوم الإصلاح الاقتصادي، وكاد هذا المفهوم أن يختزل التنمية بالنمو الاقتصادي الصرف، أي في الاستثمار وعوائده الرأسمالية.
فأصبحت سمة الإصلاح الجديد انحصار اهتمامه بالأرقام والإحصاءات والمؤشرات الكمية عن دلالات الاستثمار والإنتاج والمحاسبة المالية والنقد والتسليف.
أما مستويات الحياة الإنسانية وعدالتها ومؤشراتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية، ورغم كل اهتمامات المنظمات الإنسانية الدولية، فقد ظل يُنظر إليها باعتبارها نافلة أو مرتبة أدنى؛ ظل التعامل مع الإنسان باعتباره إما منتجاً أو مستهلكاً، فهدف التعليم والصحة هو تأمين عمال أصحاء ومؤهلين لتعظيم الإنتاج القومي، والإعلام خلق مواطنين متغذين مستهلكين ومشترين، أما أوقات الفراغ فهي أوقات لزيادة الاستهلاك وتنشيط المبيعات وشراء الخدمات، بحيث فرضت معايير الربح على أوجه النشاط الاجتماعي كلها، حتى على القيم الأخلاقية، وتحول الإنسان نفسه إلى سلعة، أو مجرد ترس في آلة تعظيم الناتج القومي بغض النظر عن أنماط توزيعه.
لقد تم تجاهل الشروط الاجتماعية والحاجات الثقافية والروحية والاجتماعية بتأثير بعض الاقتصاديين من أصحاب الاختصاص الذين، على خلفية التهليل لنظام عالمي جديد، وللعولمة التي "لا رادّ لقضائها"، راحوا يقنعون أصحاب القرار (بأنهم يملكون نظرة ثاقبة)، نظرة تمثلت في تجاهل المسائل الاجتماعية والثقافية والروحية والمشاركات والتكافل وحجبها تحت عباءة مفهوم أحادي البعد للإصلاح الاقتصادي.
هذا المنطق في الإصلاح الاقتصادي الأحادي البعد الرائج اليوم، يطمس الصورة الواقعية لتأثر الحياة الإجتماعية والثقافية على الإنتاج والتوجه الاقتصادي.
وهنا يبرز دور علم الاجتماع في دراسة اتجاه تأثير المؤشرات الاجتماعية، كالنظم الاجتماعية والعادات والتقاليد والثقافة والتراث والتكوين العقلي، في الحياة الاقتصادية. حيث تظهر التجارب أن العديد من الخطط التنموية، أو محاولات الإصلاح الاقتصادي، على الرغم من أنها قد تكون مدعومة بإرادة سياسية فعلية، قد تتعثر نتيجة عدم استعداد الناس أو عدم مشاركتهم، بتأثير عادات اجتماعية أو منظومات قيم وسلوك وأنماط حياة مكتسبة ومعتادة. الأمر الذي يبرز أهمية أخذ الظروف الأجتماعية المعطاة وتهيئتها للاندماج في الخطط، وخاصة تهيئة الأفراد والهيئات الوسيطة ومؤسسات المجتمع الأهلي اجتماعيا وثقافياً وإعلاميا لمشاريع التغيير . وذلك هو دور علم الإجتماع بالدرجة الأولى.
إن رفع مستوى الإنتاجية كعملية اقتصادية، مثلاً، يتطلب رفع المستوى الثقافي عموماً، وإيجاد دوافع مادية ومعنوية محسوسة، بحيث تعتبر العوامل الاجتماعية من أهم العوامل المؤثرة في الإنتاجية كعملية اقتصادية هامة، وكمفهوم اقتصادي مركزي في علم الاقتصاد.
لماذا نحن بحاجة لعلم الاجتماع؟
إنَّ أهمية علم الاجتماع في واقعنا العربيِّ المعيش يمثِّلُ نقطةَ تحولٍ في بناء منظومةٍ اجتماعية قادرةٍ على فهم الواقع الاجتماعي بكلِّيته النظريَّة والعملية.
فمجتمعاتنا العربيَّة لديها مشكلات اجتماعية كأيِّ مجتمع من المجتمعات؛ ممَّا يَستلزمُ وضع الخطط الاجتماعيَّة، والتصورات النظريَّة، والرؤى العمليَّة، لحل أيِّ معضلة تواجهه، خاصَّةً وأن مجتمعاتنا اليوم تمرُّ بأزمةٍ ثقافيةٍ وفكريَّة، وما يَنجم عنها من نتائج عكسيَّة تتطلَّبُ جهدًا اجتماعيًّا ذا طابعٍ علاجي، يكون جلُّ همِّه ضَبط الواقع الاجتماعي بشكلٍ يَضمن عدم انهيار المنظومة الاجتماعيَّة بكاملها.
وحتى نضمن فعالية عِلم الاجتماع في مُجتمعنا العربيِّ؛ لا بدَّ من الاهتمام بالعلم القائم بذاته؛ فالتجديد بالمفاهيم ومواكبة كل ما هو جديدٌ يَضمن فاعليَّة العلم وحيويَّته في فهم كلِّ ما هو مستجدٌّ على الساحة الاجتماعيَّة العربية، إضافة إلى الاهتمام بالتخصُّصات الاجتماعيَّة ذات الطَّابع العملي الملامِس للواقع المعيش، فالاقتصار على البُعد النَّظري دون البُعد العملي يُعتبرُ تهميشًا لعلمٍ قائم بحدِّ ذاته؛ ممَّا يتوجَّب فتح العديد من التخصصات الاجتماعيَّة؛ كالخدمة الاجتماعية التي اقترنَت فاعليَّتها بالمجتمعات الغربيَّة بالبعد الإنساني التطوعي، فكيف حال ذاك العلم في واقعنا العربيِّ؟.
إنَّ حاجتنا لعلم الاجتماع في القرن الحادي والعشرين أضحَت ضرورةً ملحَّة؛ نتيجة لما أفرزَته الثورة التكنولوجيَّة والعَولمة الثقافيَّة من انعكاساتٍ سلبيةٍ على الواقع الاجتماعي برمَّته، ممَّا استدعى توافُر طاقم من المتخصصين المشتغلين بعِلم الاجتماع، والمزودين بالخبرات العلميَّة والفكريَّة، والمطَّلعين على حالة المجتمع؛ حتى يكونوا قادرين على وَضع السيناريوهات، وتبنِّي الخطط المستقبليَّة التي من شأنها رِيادة المجتمع وتقدُّمه.
اضافةتعليق
التعليقات