لقد مر زمن طويل على لقائي بها، امرأة من جيل أمي مثابرة طموحة ودودة غنية بالكثير من معالم الخُلق الرفيع، خيرها مأمول والشر منها مأمون، كنت لا أخشى التباس انطباعاتها حين أقص عليها تجاربي كونها أخصائية نفسية، وبحكم أننا قضينا معا عدة أشهر في إحدى الدورات التخصصية، دائما ما كنت أتساءل ما هو السر وراء هذا التوافق والتقارب بيننا بالرغم من أن فارق السنوات الذي يفصلنا يفوق عمري بأكمله ؟!
الأمر الذي استدعاني للخوض في بحث داخل أعماق أسرار العلاقات الإنسانية، وتجريدها من قشور العلوم النفسية الرائجة، فأنا لم أتّبع معها لا لغة جسد معينة، ولا إيماءات محددة، حتى إنني لم أحاول استخدام أي من تقنيات الألفة وهي أدوات لتحسين جودة تواصل الأشخاص، جل ما كنت أفعله هو أن أعبر بأريحية عمّا أراه صوابا وما أراه خاطئا، الأمر الذي كان السبب الأول في فتح نقاشات تخص العائلة والمجتمع وامتداد العلاقة لمدة طويلة .
ولقد وردت في هذا المجال العديد من النظريات والبحوث فقد تناولها كثير من علماء الاجتماع وعلماء النفس بطريقة مفصلة لا تخلوا من الإسهاب والتفصيل إلا أن منهج وفكر أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) تناول هذه المواضيع بطريقة بلاغية تحمل معاني عميقة وواضحة في أغلب خطبه وأحاديثه، ويمكن إعتبار جزئية الانطباعات الشخصية القائمة على نوع التنشئة ومستوى الخبرات عاملا أساسيا في التأثير بمستوى جودة العلاقات الإنسانية مما يستعدي دراستها بطريقة عصرية لا تخلو من التراث الفكري الإسلامي واللمسات الأكاديمية الحديثة، ويمكن إيجاز بعض العوامل الداخلية والتي تكون لبنة أساسية في عملية بناء الانطباعات الأولية والتي تسهم مستقبلاً في بناء أي علاقة في ما يلي.
١- الصورة الذهنية: التي لدينا عن أنفسنا، فنميل في الغالب إلى أن نحلل سلوك الآخر وفقا صورتنا في اللاوعي، والذي يفسّر بعض الاشتباهات التي قد نرتكبها في تشكيل الانطباعات الأولية عنهم، وإن من أهم الخطوات للحد من خطر هذه الانطباعات والأحكام العشوائية على المحيط الاجتماعي، هو التعرف على نظرته لنفسه من خلال ما يتشكل لديه من سلوكيات وأفكار، ومن الأمثلة على ذلك حين تكون إنساناً صادقا لا تنجر إلى السلوك المصطنع، فإن عقلك وبشكل اوتوماتيكي سيميز الحالة المألوفة لديه، فيستطيع بذلك أن يجد كل الدلالات والعلامات التي تمكّنه من أن إقناعك بأن الطرف الآخر هو مرآتك، وأنه بلا شك طيب وصادق أيضا مثلك تماما، فلا يتبادر لذهنك ولو لوهلة أنه يضمر الشر في داخله.
لكنّ سلامة الصدر وصدق النية قد تكونان سببا لمشكلات جمة يقع فيها الإنسان إن أفرط في حسن ظنه، ليستيقظ من غفلته وهو بين كماشتي فخ مخيف، في عدم الانتباه لحقيقة أن لحسن الظن ظروف موضوعية معينة، وقد يتنافى العمل به في كل زمان ومكان مع الحكمة والرشاد.
ويكون هذا الأمر مماثلا بالنسبة للانطباعات والتهيؤات السلبية فعادة ما يميل الأشخاص الأقل معرفة بكوامنهم لأن يطلقوا أحكاما مقاربة لسلوكهم الخاطئ؛ كون هذا السلوك هو الأقرب لهم من غيره، والفكرة هنا أن الإنسان يتصرف طبقا للمعلومات التي يملكها أو يجربها لذلك يصعب عليه تمييز ما يناقضها، فيسهل بذلك الحكم بمنظوره الشخصي والتي بينها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله :
"الشرير لا يظنّ بأحد خيراً، لأنّه لا يراه إلّا بطبع نفسه".
ولا يتوقف الإضرار عند هذا الحد، فبعد إطلاق الأحكام وفق الميول والأهواء الشخصية، يبدأ الشخص السيء الذي يصعب عليه أن يحاسب نفسه على أخطائه، بالبحث عنها تلقائيا في الآخرين، لأن محاسبة الآخرين أسهل عليه بكثير من محاسبته لذاته، وقد يؤدي به الأمر في النهاية إلى مساوئ أكثر خطرا، كالخوض فيما لا يعنيه مما يراه بعينه صوابا، فينصب نفسه قاضيا على غيره، ليسقط في مزالق مشكلتين إن تجنب إحداهما لن يسهل عليه تجنب الأخرى وهما: البهتان والغيبة وكفى بهما مفسدتين كبيرتين.
والاولى هنا هو الاشتغال الحقيقي بتأديب النفس، وحملها على ما يقوّمها من المراقبة والمحاسبة الدائمة بدل الانشغال بالناس فإن "معلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم"١.
وبحسب رأي عالم اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي فإنه يشير إلى أن التقدم الحاصل في العلوم وظهور تخصصات جديدة كعلم النفس والأعصاب والاجتماع، ووجود أولياتها في متناول الجميع مع ما يتوفر لها من الترويج والتسويق أسهم وبشكل كبير نشوء ظاهرة أن ينشغل الشخص العادي بالشخص الآخر محاولة لتحليله وفهمه بدقة، ليغفل بذلك الشخص العادي عن فهمه نفسه بنفسه، وهذه العملية قد تمثل سببا مهما في تراجع الأمم وتقادمها، وهذا ما حذر منه أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) مراراً وتكراراً في وصاياه وخطبه.
٢-المنضومة القيمية: إضافة إلى تأثير الصورة الذاتية فإن القيم أيضا تشكل عاملا أساسيا في عملية بناء الانطباعات الأولية عن الآخرين، والتي تمثل اللبنة الأساس في تشكيل العلاقات الإنسانية.
ويمكن إيجاز ذلك من خلال نسبة التقارب القيمي، فمن المعروف أن لكل فرد منظومته القيمية الخاصة به، والتي تختلف من شخص لآخر تبعا لبيئته وتجاربه وأفكاره، فكلما كان هنالك عوامل قيمية مشتركة بين الطرفين ستزداد احتمالية التوافق بينهما، ومثال على ذلك إذا كان العلم قيمة عليا، فإن احتمالية التوافق ستكون على الأغلب مع الأشخاص الذين يكون العلم ضمن نطاق أولوياتهم القيمية، الأمر الذي قد يفسر سرعة التوافق والتي تحصل احيانا بالرغم من قلة التواصل .
والأمر ذاته فيما يتعلق بالقيم الأخرى، ويمكن اعتبار جزئية القيم من ضمن أهم دعائم تشكيل العلاقات، ويجدر بالذكر أنه كلما كان مستوى تجذر هذه القيم في شخصية الفرد أعمق كان هو الطرف المؤثر في العلاقة، ويتجلى هذا التجذر بأن يكون وجود هذه القيم واضحا في أفكاره وسلوكياته، فيمكنه ذلك من أن يوجه سلوك الآخر بشكل تلقائي، مما يوضح الفرق بين التأثير الوقتي الذي يتلو أي محاولة لتعديل السلوكيات أو المعتقدات في عملية التعليم، فقد تكون قيمة الموضوع المراد غرسه أقل تجذرا في معالم شخصية المعلم نفسه، فلا يتمكن من التأثير بعمق في المقابل.
٣- المستوى الفكري: كما وأن عامل التقارب الفكري بين الأفراد هو من العوامل التي تسهم إسهاما كبير في تحديد نسب التجاذب بين الأفراد وفقا للانطباعات الأولية، فلكل منا مساحته الخاصة التي يشعر ان لديه المقومات التي تمكنه من أن يتعامل بها على أفضل وجه، لذلك سيكون من ضمن المعايير التي يستخدمها العقل الباطن للمحافظة على الصورة الذاتية المثالية للشخص عن نفسه أن تبقيه ضمن نطاق هذه المساحة، فلا يشعر بالراحة حين يتواجد مع أشخاص يمتلكون مساحة لا تتناسب و مساحته من الوعي، لأن هذه الانتقالة تشكل تهديدا لمنطقة الراحة لديه الأمر الذي يتطلب منه جهدا لكي يتمكن من يصل به إلى هذا المستوى فيكون التعامل مع هذه الحالة بطريقة مختلفة ، فإما أن تكون ردة فعل الفرد ايجابية بأن يحاول تقليص الفجوة الفكرية بينه وبين الطرف الآخر فيلجأ للعمل الحثيث للتعلم لتشكل له هذه العملية جزء من الدافعية نحو بلوغ المعرفة و الارتقاء بالفكر، وإما أن تكون استجابة سلبية فيبدأ الطرف الأقل وعيا بمنازعة كل من يرى فيه عوامل التفوق والإدراك بدل أن يستثمر هذه الموقف في الاستزادة واكتساب علم إلى علمه ليكون من الذين وصفهم الأمير فقال (اعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه).٢
كما أن هنالك عاملا مؤثرا كبيرا في جميع ما سبق ألا وهو الرغبة أو الحاجة، فعندما نقوم بتحليل حالة معينة، فإن تفسير هذا الموقف سيكون على الغالب متوافقا مع المعطيات التي تتناسب مع الحاجات أو الرغبات الشخصية بنسبة عالية مما قد يؤثر بشكل كبير على بناء انطباعات ايجابية أو سلبية على حد سواء أو ما يسميه العلم (بالانحياز التأكيدي)٣، والذي يتمثل بعدم ميلنا إلى تقييم الأمور بموضوعية عندما يتعلق الأمر بما نرغب فيه، فنكتفي بالقليل من المعلومات التي تدعم وجهة نظرنا، لنتجاهل ما يخدم الأفكار التي يتبناها الآخرون، وهذا العامل يعتبر الأهم في التأثير، فيشكل حجابا حاجزا بين العقل والنتائج المنطقية.كما جاء في حديث مولى الموحدين عليه السلام: (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع)٤، فإن الرغبات من الممكن أن تكون من أكبر الأسباب التي تسهم في إعاقة بناء الانطباعات التي تستند إلى الواقع، لهذا فإن معرفة النفس بدقة وموضوعية يسهم وبشكل كبير في الحد من تأثير هذه العوامل من خلال تعرفه على صورته الذاتية بدقة، ليتمكن بذلك من متابعة نواقصه وعيوبه ليشتغل بها.
كما ويتعرف على قيمه، وهل أنه متسق مع هذه القيم، وهل أن سلوكياته وأفكاره متوافقة مع ما يملك من قيم؟ ويجدر الإشارة إلى أن البعض قد يدّعي تبنيه لقيم معينة أما تعاملاته فتكون مختلفة تماما عن ادعاءاته، لأن الطبع عادة ما يغلب التطبع، لذلك من المهم أن يعرف بدقة ما هي قيمه الحقيقية، لتكون تحيزاته بذلك أقرب إلى الواقع والمنطقية منها إلى الظن.
الأمر ذاته بالنسبة لتقارب المستوى الفكري، فإننا بحاجة لكي نكون على دراية بالمستوى المعرفي الخاص بنا أو مستوى التفكير الذي نحن فيه، ليتسنى لنا بذلك أن نفهم طبيعة التحيزات التي قد نرتكبها، وللتسليم بقاعدة أننا كبشر مختلفون في مستويات التفكير، لذلك قد نميل إلى التعامل مع الامكانات التي تكون متقاربة بشكل أكبر معنا، فلا نقع في مشكلة أن ننبذ طرفا بناء على اختلاف مستواه الفكري عنا ، فنكون بذلك أعداء للعلم والمعرفة.
وعلى الإنسان أيضا أن يتفكر بمدى عجزه وفقره وحاجته إلى التعلم المستمر، ولا يكون هذا التعلم قائما بموازاة الرضا أو الغلو، فإننا بحاجة إلى أن نكون في حالة من التدقيق والتمحيص المستمرين لكل ما قد يحمل النفس على إطلاق أحكام بناء على انطباعات لا تعدو كونها تحيزات، فكما إن للإنسان واعز وجداني يحمله بالفطرة على كل ما هو جميل، إلا أن في قبالته نفس أمارة بالسوء تدفعنا وبطرق ملتوية إلى أن نعلق في دوامة الانشغال بما يصدر من الغير بدل أن ننتبه وبشكل فعلي إلى ما نفعله، فنقع بذلك بمصيدة تضييع الأهم والانشغال بغير المهم.
اضافةتعليق
التعليقات