دخلت بهدوء كي لا تنفض الغبار عن تلك الذكريات ..
كانت تعرف بأن أشبال علي لا زالوا يذكرون ذلك المصاب، لا زالت رائحة الدخان تفوح في الأرجاء لذلك دخلت بهدوء كي لا تسبب ضجيجاً ليتامى فاطمة..
لم تكن كمثيلاتها تبحث عن الشهرة أو عن المثالية أو أن يُسلّط الأضواء عليها كونها هي عروسة تزف الى بيت زوجها بل تركت كل المغريات وأصبحت هي من تُسلّط الأضواء، على أطفال علي عليه السلام، لبصيرتها ومعرفة حقوقهم وعلو شأنهم عليهم السلام.
ولأنها لم تبحث عن الامتياز خصَّها الله ورفع من شأنها و جُعلت تحت المجهر كي يرى الجميع علوّ شأنها، وحباها الله مكانة عالية في سماء العظمة وأصبحت كالنجمة التي توسطت السماء وأضاءت المكان والزمان بنبراسها القوي وانبهر الجميع من جمالها ..
لم تتحلق في سماء العظمة هباءاً إنها عرفت كيف تختار الطريق، تشبثت بحبل الله المتين في أرضه وتمسكت بالثقلين..
كما قال نبينا الكريم صلى الله عليه وآله:
(إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا).
وروى الشيخ الصدوق في كتابه (الخصال:515 / ح 1)، والفتّال النَّيسابوري في (روضة الواعظين:298) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: "مَن رزقه اللهُ حبَّ الأئمّة مِن أهل بيتي فقد أصاب خيرَ الدنيا والآخرة، فلا يَشُكّنَّ أحدٌ أنّه في الجنّة؛ فإنّ في حبّ أهل بيتي عشرين خَصلةً: عشرٌ منها في الدنيا، وعشرٌ منها في الآخرة.
أمّا التي في الدنيا: فالزهد، والحرصُ على العمل، والورع في الدِّين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبلَ الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس ممّا في أيدي الناس، والحفظ لأمر الله ونهيه عزّوجلّ، والتاسعة بُغضُ الدنيا، والعاشرة السخاء.
وأمّا التي في الآخرة: فلا يُنشَر له ديوان، ولا يُنصَب له ميزان، ويُعطى كتابَه بيمينه، وتُكتَب له براءةٌ من النار، ويَبيَضّ وجهُه، ويُكسى مِن حُلل الجنّة، ويُشفَّع في مئةٍ من أهل بيته، وينظر اللهُ عزّوجلّ إليه بالرحمة، ويُتوَّج مِن تيجان الجنّة، والعاشرة يدخل الجنّة بغير حساب، فطُوبى لِمُحبّي أهل بيتي".
من أتاهم أصبح من الفائزين ومن تمسك بحبلهم وصل الى أعلى عليين و من أحبهم ذكر اسمه في قائمة السعداء، كتلك السيدة الجليلة التي ذكر بعض أصحاب السير أن شفقتها على أولاد الزهراء سلام الله عليها وعنايتها بهم كانت أكثر من شفقتها وعنايتها بأولادها الأربعة...
إنها أجادت التربية الصالحة وحثّت أولادها على نصرة إمامهم وأخيهم أبي عبد الله الحسين، والتضحية دونه والاستشهاد بين يديه.
أخبرني عن سيدي الحسين
ورد في أحوالها عندما وصل خبر استشهاد أولادها إليها في المدينة المنورة بكتهم بكاءً مرّاً، لكن كان بكاؤها لهم أقل من بكائها على الحسين عليه السلام وذلك في قصة مشهورة؛ {اقتباس خاص| ذكر العلامة المامقاني (قده) في تنقيحه، أن بشراً قال: رأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً وهي تشق الصفوف نحوي، فلما وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين، فعلمت أنها ذاهلة، لأني أنادي: قتل الحسين، وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أم البنين، فأشفقت عليها وخفت أن أخبرها بأولادها مرة واحدة.
فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله. فقالت: ما سألتك عن عبد الله، أخبرني عن الحسين، قال، فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان. فقالت: ما سألتك عن عثمان، أخبرني عن الحسين. قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر. قالت: ما سألتك عن جعفر، فإن ولدي وما أظلته السماء فداء للحسين، أخبرني عن الحسين. قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس. قال: بشر، لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها وسقط الطفل من على عاتقها، وقالت: لقد والله قطعت نياط قلبي، أخبرني عن الحسين. قال، فقلت لها: عظم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين.
قال الشيخ عبدُالله المامقاني "يُستفاد قوةُ إيمانها وتشيّعها أنَّ بشراً كلّما نعى إليها واحداً من أولادها قالتْ: أخبرني عن أبي عبد الله.. أولادي ومَن تحت الخضراء كلّهم فداءٌ لأبي عبدالله الحسين. إنّ عُلقتها بالحسين عليه السّلام ليس إلاّ لإمامته، وتهوينها على نفسها موت هؤلاءِ الأشبال الأربعة إنْ سلم الحسين يكشف عن مرتبة في الديانة رفيع".
بعد حادثة الطف ظلّت تبكي وتندب الحسين عليه السلام وأولادها الأربعة، كانتْ وفاتُها المؤلمة في الثالث عشر مِن جمادى الآخرة سنة (64 هـ) حيث لبّت نداء رَبِّهَا و صعدت روحها الطيبة الى جنات الخلد التي وعد المتقون..
فسلام على تلك المخلصة التي أخلصت في وفاءها، حبها وولاءها لأئمتها عليهم السلام ..
وسلام على كل امرأة تتّعظ بسيرة حياة هذه السيدة الجليلة وتسلك درب العظمة وتتشبث بذلك الحبل المممدود من السماء ..
سلام على كل مخلصة لإمام زمانها في كل زمان ...
اضافةتعليق
التعليقات