قدماه ترتجفان كأنهما تحملان جبلاً من الذنوب، ويداه المرتعشتان تفتحان باب الغرفة بعنف. ألقى بجسده المنهك على الكرسي الهزاز، كجثة فقدت روحها، بينما عيناه معلقتان بسقف الغرفة، كأنه يبحث عن خلاص لا يجده. ذهنه شارد، قلبه يخفق بجنون، والعرق يتصبب من جبينه كأنه يغسل خطاياه التي لا تُغسل.
فجأة، قطع شروده صوت قطرات ماء تتساقط بإلحاح. التفت نحو الصنبور فوجده مغلقًا، فازدادت حيرته. من أين يأتي هذا الصوت؟ بدأ يراقب المكان بعينيه المتعبة، لكنه لم يستطع تحريك جسده المثقل بالألم. ثم لمح قطرات الدم تتساقط من يده! نظر إليها بذهول، لا أثر لأي جرح، ولكن الدم مستمر بالجريان.
ركض نحو الحوض وفتح الماء بأقصى قوة، بدأ يفرك يديه بجنون، لكن كلما غسل، زاد تدفق الدم. جرب الصابون، الفرك العنيف، لكنه كلما اجتهد، كلما ازدادت اللعنة. في تلك اللحظة، دوّى في أذنه صوتها... الصرخة التي مزقت كيانه، الصوت الذي حاول نسيانه لكنه ظل يطارده في يقظته وأحلامه. تراجع إلى الخلف وغطى أذنيه بيديه الملطختين بالدم، جلس منهارًا، يدرك أن هذا الصوت، وهذا الدم، ليس إلا ذنبه المتجسد.
عاد بذاكرته إلى الوراء... إلى الطفلة التي سلب منها براءتها ثم قتلها بيديه المرتعشتين. لم يكن وحشًا بطبيعته، لكنه أصبح كذلك. كان في صغره ضحية مثلها، تعرض للتحرش لكنه صمت خوفًا، لم يجد من يحميه، لم يجد من يمد له يد العون. كبر وهو يحمل جرحه بداخله، وهو يعلم أن هناك خطأ ما في روحه، لكنه لم يعرف كيف يصلحه. لم يسأل أحد، لم يعترف لأحد.
حتى تحول إلى وحش يبحث عن ضحية أخرى ليعيد مشهد ألمه على جسدها الصغير. لكنه لم يدرك أن الجريمة لا تنتهي بفعلتها، بل تظل تنزف داخله، تتجسد في صرخات، في دماء، في نظرات الضحية التي تطارده حيثما ذهب.
وحين وقف أمام الطفلة التي اغتصبها، لم يكن يرى فيها شخصًا، بل كان يرى نفسه. كان ينتقم؟ ربما. كان يحاول إعادة المشهد؟ ربما. لكنه في تلك اللحظة، كان قد تخطى الحاجز الذي يفصل الإنسان عن الوحش.
وعندما انتهى منها، عندما سلب منها روحها، عندما تحول من الضحية إلى الجاني، اعتقد لوهلة أن الأمر انتهى. لكنه لم يكن يعلم أن الجريمة الحقيقية لا تحدث لحظة الفعل، بل تبدأ بعده. تبدأ عندما تغلق الأبواب، عندما يصبح الجاني وحيدًا، عندما يواجه نفسه في المرآة، عندما يسمع الصوت، عندما يرى الدم يقطر من يديه رغم أنه لم يلمس شيئًا.
رفع رأسه إلى المرآة، نظر إلى نفسه، لكن ما رآه لم يكن وجهه. كان وجه ذلك الطفل الذي كانه يومًا، الطفل الذي تعرض للتحرش، الطفل الذي صمت، الطفل الذي كبر ليصبح وحشًا. الطفل كان يحدق فيه، يملأ عينيه بالخوف، بالأسى، بالخذلان. لم يحتمل النظر أكثر. أغمض عينيه، لكن الصورة لم تختفِ.
عزيزي الأب، عزيزتي الأم، إن الطفولة هي المرحلة الأكثر حساسية في حياة الإنسان، حيث تتشكل فيها شخصيته، وتتبلور نظرته للعالم، وتُرسّخ فيها قيمه النفسية والأخلاقية. لكن هذه المرحلة، بكل براءتها ونقائها، قد تكون أيضًا الأكثر عرضة للخطر إن لم نكن يقظين كفاية لحمايتها.
-، وقد يتحول إلى وحش صامت ينهش روحه ويشوّه إدراكه لنفسه وللآخرين. كثير من الجناة الذين ارتكبوا جرائم لا تغتفر كانوا يومًا ضحايا، لكن غياب الدعم والاحتواء حولهم من متألمين إلى مؤذين.
رسالة أخيرة:
أبناؤكم أمانة في أعناقكم، فكونوا درعهم الأول، كونوا أصواتهم عندما يخافون، وكونوا أيديهم التي تنتشلهم إن تعثروا. لا تستهينوا بأي إشارة، ولا تتركوا أطفالكم يواجهون الخوف وحدهم، فوحوش الماضي قد تخلق وحوشًا جديدة في المستقبل إن لم نقف بوجهها اليوم.
اضافةتعليق
التعليقات