ليست ذكرى هدم البقيع مجردَ ألمٍ عابرٍ في سجل التاريخ، بل هي صرخةٌ تُنذر بخطرٍ يتكرر: تآكل الهُويّات ومحو الذاكرة الجماعية.
فما بين تدمير المقدسات وتشويهها، تواجه الأمّة الإسلامية تحدياً وجودياً يُهدّد جذورها الحضارية، ولا خلاص إلا بوعي يجمع بين صون كرامة الإنسان وحماية حجارة التاريخ التي تحمل روح الأجداد.
في الثامن من شوال عام *1344هـ (1925م)، ارتُكبت جريمةٌ تاريخيةٌ بإزالة قباب وأضرحة أئمة البقيع من أهل بيت النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأمر من عبد العزيز آل سعود مع توسع نفوذه في الحجاز. استند القرار إلى فتاوى لتيارات سلفية ترفض البناء على القبور وتعتبر الزيارة "بدعة"، متجاهلةً قروناً من التراث الإسلامي الذي اعتبر هذه المواقع رمزاً للارتباط الروحي بالأئمة .
لم يكُن الهدم مجردَ عبثٍ بالحجارة، بل طمساً متعمّداً لآثارٍ شُيّدت في العهد العثماني، وأُعيد ترميمها كشاهدٍ على تعاقب الحضارات.
القباب المهدمة لم تكن مبانيَ عابرة، بل كانت جسوراً تربط الأجيال بتاريخهم، وتذكرةً بمن حملوا مشعلَ النبوة والعلم.
القرآنُ يشهد:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور: 36).
فكيف إن كانت تلك البيوتُ مَسكناً لأهل بيت النبوة، الذين وصفهم الرسول (صلى الله عليه وآله) قائلاً: «أذكركم الله في أهل بيتي»؟! إن محو آثارهم ليس انتهاكاً للماضي فحسب، بل إهانةٌ لإرثٍ أوصى القرآن بحفظه.
إعادة البناء: استردادُ الكرامة لا الحجارة
المطالبة بإعادة بناء البقيع ليست تعلُّقاً بأطلالٍ، بل دفاعاً عن حقّ الأمة في هويتها. فالحجارة هنا ليست جماداً، بل سطورٌ من كتاب الأمة، وحروفٌ تسرد بطولات من دافعوا عن الإسلام. يقول تعالى:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا﴾ (البقرة: 114).
فإن كان السعي لخراب المساجد ظلماً، فكيف بمن يمحو قبوراً ارتبطت بوحي السماء، وأهلها من همْ «كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»؟!
ختاماً، البقيع ليس أرضاً في المدينة المنورة، بل هو قلبُ الأمّة النابض بذاكرتها. وإعادة بنائه ليست خياراً، بل خطوةٌ لاسترداد الكرامة المغتصبة. كما قال الإمام علي (عليه السلام): «إنما يُدافع عن الحق بألسنةٍ تُنطقها القلوب». فلنكن تلك الألسنة.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اضافةتعليق
التعليقات