كنت في الخامسة عشرة من عمري حين سمعت لأول مرة أن أبي قد أُصيب بمرض السكري. لم أكن أستوعب تمامًا ما يعنيه ذلك المرض ولا مدى خطورته، وكنت أراقب أبي وهو يتصرف بلا مبالاة تامة. لا يأخذ علاجه بانتظام، ويتناول الحلويات غير مبالٍ، وكأن السكري مجرد شيءٍ عابر.
كانت أمي تحذره باستمرار، وجدتي تصرخ عليه بحزنٍ وحرقة: "سيقتلك هذا المرض!" لكن أبي كان يعاندها، مستهينًا بالنصائح التي تحاول الأسرة جاهدين أن يُقنعوه بها. كنت أرى هذا "الرفيق الثقيل"، كما كنت أسمعهم يسمونه، يظهر في حياتنا بشكلٍ غير مباشر. كان شيئًا غير مرئي لكنه يؤثر في كل شيء، ينغص مزاج أبي ويشعل القلق في عينيّ أمي.
مع مرور الوقت، بدأت ألاحظ أن أبي يواجه المزيد من الصعوبات. لم يعد نشاطه كما كان، وتراجعت عافيته ببطء كئيب. وأمي، التي كانت تتوسل إليه ليأخذ علاجه، ازداد خوفها وحزنها حتى أصبح القلق جزءًا من حياتنا اليومية. كان في عروق أمي وعباراتها المرهقة، وفي أنفاس الأسرة ككل. وكنت أنا، رغم صغري، أبدأ في استشعار ذلك القلق ينساب في داخلي، خوفًا من أن أفقد والدي، وهو يتراجع تحت وطأة هذا المرض القاسي.
لكن أبي، على الرغم من كل تلك التحذيرات، استمر في عناده. ولم أدرك حقًا مدى وحشية السكري إلا عندما صحوت في صباحٍ مشؤوم لأجد أبي بقدمٍ واحدة. كان ذاك اليوم كابوسيًا لم أستطع نسيانه أبدًا، وكأنه صدمة قلبت حياتي رأسًا على عقب. السكري لم يلتهم قدم والدي فقط، بل أكل شيئًا من قلبي أيضًا. شعرت حينها أنني فقدت قوة ظهري وسندي، وأن جزءًا من حياتي قد تم بتره مع بتر قدم أبي. ذاك اليوم، تغير كل شيء، فوالدي بعد هذا الحدث لم يعد هو الشخص الذي عرفته.
كانت صورة أبي وهو يجلس، عاجزًا عن المشي بشكل طبيعي، صورة لم تفارق مخيلتي. كنت أنظر إليه وقد فقد جزءًا من جسده، ومن نشاطه، وأصبح لديه ذاك "الرفيق الثقيل" الذي يستنزف قوته وأحلامه ببطء. لم أعد أرى الأمل الذي كان في عينيه بدأ الوجع يترسخ في ملامح وجهه، وصار الحزن جزءًا من حياته، وبدأنا جميعًا نعيش انعكاس هذا الرفيق المقيت، فكلما نظرنا إلى أبي، كنا نرى آثار السكري واضحة عليه.
بعد بتر قدمه، لم يكن الأمر مجرد مسألة جسدية، بل كان السكري يأكل من نفسية أبي رويدًا رويدًا، ومن نفسي أيضًا. كنا نعيش في ظل هذا المرض، الذي أصبح جزءًا من يومياتنا، رفيقًا غير مرئي يذكرنا دومًا بأنه حاضر، وبأنه لا يغفر الإهمال. وذاك الدرس الذي تركه السكري في أسرتنا لم يكن درسًا عابرًا؛ بل كان درسًا عميقًا بأن الإهمال في مرض السكري قد يدمر حياة كاملة، ويمحو أحلامًا كانت يومًا ما قريبة.
إن السكري ليس مجرد ارتفاع في سكر الدم، بل هو مرض قاسٍ يحتاج إلى عناية ومراقبة حثيثة. ليس مجرد أعراض عابرة، بل هو زائر ثقيل قد يلتهم الإنسان تدريجيًا إذا لم يُحكم التعامل معه. أدركت أن السكري يضع بين أيدينا خيارين فقط: إما أن نلتزم بنظامه ونتعلم كيف نعيش معه بوعي، أو نتركه يلتهم أجسادنا بصمت ودون رحمة.
وهذا هو السبب الذي جعل المجتمع العالمي يحتفي بيوم خاص للسكري، في الرابع عشر من نوفمبر من كل عام. يوم عالمي لرفع الوعي بهذا المرض الخطير وتوعية المصابين بضرورة التحكم فيه بحذر. يُعد هذا اليوم فرصة لنشر الوعي وتشجيع المصابين وغير المصابين على الالتزام بالوقاية والاهتمام بصحتهم.
لقد كان السكري رفيقًا ثقيلًا في حياة والدي، وحملًا لم يبارحنا حتى بعد كل تلك المعاناة. أصبح درسًا يوميًا بأن الإهمال قد يؤدي إلى نهاية مأساوية، وأن الألم الذي أراه في عيني والدي هو تذكير لي بأن الصحة ليست مجرد شعور، بل هي مسؤولية. يوم السكري العالمي هو يومٌ لتذكير الجميع بأن هناك عدوًا صامتًا يعيش بيننا، يتسلل ببطء، ويصيب الجسد والنفس، ويضعنا في مواجهة اختبار طويل لا ينتهي.
كلما مرّت بي ذكرى ذلك اليوم الكئيب، شعرت بأهمية هذا الوعي، وأهمية الاستفادة من تجربة والدي. علينا ألا نستسلم له، بل نتعلم كيف نقهر هذا الرفيق الثقيل الذي قد يكون عدوًا قاسيًا إذا ما أُهمل، وصديقًا محتملًا إذا ما تعاملنا معه بوعي ورعاية.
اضافةتعليق
التعليقات