البحث الداخلي الذي يبحث فيه الإنسان عن ذاته وعن حقيقته وعن إنسانيته، كأن الإنسان يمسك في يده ضوءاً كاشفاً يبحث فيه عن دخائل نفسه وفي زوايا روحه حتّى يجد الفطرة ويزيل عنها التراب وينظّفها.
فالعقل من العطايا المقدسة التي أعطاها الله للإنسان وجعل نتيجتها وثمراتها مباركة دائماً.
فنحن محرومون من النظر إلى وجهه الشريف، محرومون من سماع صوته مباشرة وكلامه، لا نستطيع تداول الكلام معه والجلوس إليه، لكن هذا سيرتفع في ذلك الوقت، سيكون هذا كله ممكناً!.
أن نهيئ أنفسنا لذلك اللقاء، الذي بكى من أجله المئات، بل الملايين من المؤمنين منذ أكثر من ألف سنة، وتهجَّدوا في ليلهم ونهارهم حتّى يتشرفوا بنظرة واحدة إلى إمامهم عليه السلام.
فالذي جعل فينا علامة لنعمل فيها ولنهيئ أنفسنا من خلالها هي نعمة العقل، نعمة التفكر فيه الذي من أجله نعمل ونهيئ الاعداد الروحي للقاء.
فإذا استطاع الإنسان أن يشغل عقله يوفّر لنفسه نسبة من الطهارة، ودرجة من القرب إلى الله عز وجل ويكون قد أعد نفسه.
فكيف لنا أن نحضى بشرف مجالسته؟
وكيف يسمح أن نجلس إليه ونتقرب منه؟
فالذكر القلبي الذي يكون في داخل كل محب لإمامه غارقاً بشوقه، وعشقه وكل تفكره، وساهر ليله، وعما يشغله عقله وقلبه من ذكر، فتكون كل جوارحه، وجميع وجوده ناطقاً ولهاً بذكر ولي الله الإمام عليه السلام.
فانجذبت احاسيسه نحوه ومشاعرة العالقة بذكره فكما قال الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: (إِلَهِي حَقِّقْنِي بِحَقَائِقِ أَهْلِ الْقُرْبِ وَاسْلُكْ بِي مَسْلَكَ أَهْلِ الْجَذْبِ).(١)
وهنا يحصل الاطمئنان والراحة إلى العمل والصبر في طريق الانتظار.
والإمام زين العابدين عليه السلام يقول : (وَآنِسْنَا بِالذِّكْرِ الْخَفِيِّ وَاسْتَعْمِلْنَا بِالْعَمَلِ الزَّكِيِّ وَالسَّعْي الْمَرْضِيِّ).(٢)
فهو ماء الحياة للمنتظِر وهو الاكسير الذي به يحصل اللقاء الروحي والتعلق في المحبوب حتّى لا يريد خيراً ولا يأمل شيئاً إلا عن طريقه.
فلهذا يجب أن يكون قلب المنتظر متلهفاً لطلعة مولاه فإن أوحشته الغربة آنسه ذكر ولي الله الأعظم حتى يستنير قلبه بنور الذكر الخفي، فيرزقه ذلك النور.
فالاهتمام من قبل أهل البيت عليهم السلام حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر رضي الله عنه:
(يا أبا ذر، اذكر الله ذكراً خالصاً (خاملاً )).
قلت: يا رسول الله، وما الذكر الخالص (الخامل)؟(٣)
قال: (الذكر الخفي).
وذلك لما يمتاز به من إخلاص وعدم رياء لا يشوبه شائبة من التعلق بزخارف الدنيا.
فالذكر الخفي ترى الذاكر لمولاه عينه باكية وقلبه يحترق، ويعتصر ألماً لفراقه.
قال الشاعر: قلبي إليك من الأشواق محترق ودمع عيني من الآماق مندفق
الشوق يحرقني والدمع يغرقني فهل رأيت غريقاً وهو محترق.
فالمحب يزداد حزنه كل حين غارقاً في سبيل لقياه ضائعاً في عمق حبه وعشقه وليكون ورده الذي يتنفس فيه يردد ياصاحب الزمان.. ياصاحب الزمان.
فأمير المؤمنين عليه السلام من صفات المهدي عليه السلام وأومى بيده إلى صدره: (هاه... شوقاً إلى رؤيته)(٣).
وإمامنا الصادق عليه السلام يبكي بكاء الثكلى محبة للمهدي وحزناً عليه، يقول سدير الصيرفي: دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله الصادق عليه السلام فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسح خيبري مطوق بلا جيب مقصر الكمين، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى، ذات الكبد الحرى، قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغيير في عارضيه وأبلى الدموع محجريه وهو يقول: (سيدي غيبتك نفت رقادي وضيقت عَليَّ مهادي، وابتزت مني راحة فؤادي، سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد، فما أحس بدمعة ترقى في عيني وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا إلا ما لقيني... )(٤).
فالإمام المهدي عليه السلام سواء كانت الأحداث تجري عليه أو على الآخرين، ومثال ذلك ينبغي عليه إذا رأى غريباً أنه هو أصبح غريباً أن يتذكر غربة الإمام عليه السلام، وإذا استوحش ينبغي أن يفكر في وحشة الإمام عليه السلام، وإذا ظُلم يجب أن تكون مظلوميته والتأثر بمظلومية ولي الله الأعظم، وإذا رأى شخصاً قد تعلق بحب الدنيا، أو عشق شخصاً ويتلهف على لقائه، فيكون هذا حافزاً له ليزيد من تعلقه بإمامه وعشقه له عليه السلام.
وإذا قام بين يدي ربّه ليتذكر قيام مولاه في مثل هذه اللحظة بين يدي خالقه، فليحاول في كل حدث أن يربطه بنحو من الأنحاء بالإمام المهدي عليه السلام.
فينبغى أن يكون التعلق به وحبه وعشقه بنحو عظيم. وهناك عبارة تحكي الكثير، "فلأندبنك صباحاً ومساءاً ولأبكين عليك بدل الدموع دماً".
فلذا على المنتظر، والمجتمع المنتظر لإمامه عجل الله فرجه الشريف، عليه السعي الجاد والشعور بمولاه عبر الشوق إليه والهيام لعبيره الفواح ليتنفس عطر ذكره كل حين، فلا ينام ولا يهدأ لحين لقائه ويكتحل نظره بنوره العظيم، وطلعته الرشيدة.
فما أروع الحب وهو يتجلى في زيارة آل ياسين:
(السَّلامُ عَلَيْكَ فِي آنَاءِ لَيْلِكَ وَأَطْرَافِ نَهَارِكَ... السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقُومُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْعُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْرَأُ وَتُبَيِّنُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصَلِّي وَتَقْنُتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُهَلِّلُ وَتُكَبِّرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَحْمَدُ وَتَسْتَغْفِرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصْبِحُ وَتُمْسِي، السَّلامُ عَلَيْكَ فِي اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى...).
فمن هنا تتحرك قافلة المنتظرين ونتعلم كيف نحب؟ وكيف نعشق؟
فنحن بحاجة إلى مناجات الإمام وعطفه، نحن بحاجة إلى استشعار حضور الإمام عليه السلام لا مجرد وجوده المقدس. نحن بحاجة إلى التعلم خطوة بعد خطوة ومرحلة تلو أخرى من أجل الوصول إلى الهدف وهو ذكره الخفي.
فبالعقل نفكر كيف علينا أن نصل إلى إمامنا روحي فداه؟، كيف نجعل عشقه يذوب ويغرس فينا؟ علينا أن نعلم.. "فتفكر ساعة خير من عبادة سنة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اضافةتعليق
التعليقات