كرار: (حسنا أهدأ قليلا سوف أذكرك بشيء، ألم تخبرني ذات يوم عن براعة أمك في إعداد الطعام، ألم تقل لي أنها تعد ألذ المقبلات بطرق مختلفة من أبسط المكونات)، عندها كما لو ان أحد المجرات السماوية قد سقطت على رأسي فحولته الى مادته اﻷولى، ليس ﻷن كرار ذكرني بهذا وحسب إلا أنني أدركت أن هذا الولد قد سرق الوقت مني وتأخرت جدا عن وقت عودتي للبيت، فالشمس أسدلت ضفائرها على كتف الغروب، وسحبت أطراف الزرقة الحمراء.
هرولت مسرعا لكنني لم أقو على مجاراة عقارب الساعة، فلقد كانت أمي تقطع الحد الفاصل بين الباب والمحراب وهي تتهيأ لصلاة المغرب، وتفرش سجادة قد ابتلت بدموع عينيها وهي تردد: (يامن رددت يوسف إلى يعقوب رد إلي ولدي، يامن فرجت كرب أيوب رد علي ولدي).
وصلت إلى البيت بعد أن رفع المؤذن صوته بعبارة (حي على خير العمل) دخلت على استحياء أدفع الباب الحديدي بيدي الباردة وأنا مطرق برأسي لا أستطيع ان ألقي حتى تحية المساء.
أمي تصرخ وهي تجهش بالبكاء: (أحمد... أحمد ما الذي جرى لك يا ولدي؟! ما الذي حل بك؟! هل أصابك مكروه؟ من الذي ضربك... ماالذي يؤلمك...) وتوالت أدوات اﻷستفهام، تمتمت بتلعثم: (أمي أنا بخير لم يحدث لي أي مكروه) وعندها انقلب المشهد على عقبيه وبدأت أدوات الوعد والوعيد واللوم تطلق رصاصا حيا علي وارتفع صوت امي وازداد حدة: (لماذا فعلت كل هذا بي؟ من لي سواك في هذه الدنيا، لو كان أبوك حيا لكان قد جاب الشوارع بحثا عنك لكنني إمرأة) تعالى صوت بكاء أمي بعد هذه العبارة ليمتزج بصوت بكاء أخي الصغير.
قبلت رأسها ويدها وأذعنت لها طلبا لقبول العذر فقالت: (لقد كان قلبي كمجمر يغلي بالذي فيه)، طلبت منها ان تهدأ لكي أقص عليها ما الذي حصل.
رفضت أن تسمع حديثي وبدأت بمقدمات صلاتها (وجهت وجهي للذي فطر السموات واﻷرض)، هكذا أعتادت أن تتلو في مطلع خطابها وتبدأ الاتصال بالخالق سبحانه وتعالى.
بعد أن هدأ زفيرها أخبرتها بعرض كرار وعمه علي، فأجابتني بصوت يخفي فرحه وبنبرة جدية: (نعم. إنه عمل لا بأس به... سوف أعلمك كيف تعد المقبلات، أذهب وغير ثيابك).
بعدما أتممت عملي نادتني أمي وقالت: ( تعال وأدخل المطبخ وتابع خطوات إعداد الطعام)، نظرت بعين الطالب المجبر على حضور درس لم يع منه الكثير، حاولت التركيز رغم سلطان النعاس الذي اقتادني كأسير له (حسنا لقد فهمت)، بعدها غططت في نوم لو أن حرب عالمية ثالثة تكالبت على وسادتي لم أحس بها، إلا إن الحاجة أم أحمد لها وسائل وأساليب لإيقاظي لصلاة الصبح لا تخطر على بال أحد.
نهضت وأنا أستند الى الجدار ورأسي يتدلى على صدري وأكاد أنام كنخلة في يوم لا ريح فيه.
صليت الفجر وتلوت آية الكرسي والمعوذات، أعدت لي أمي كوب الشاي وقطعة من الجبن كانت قد رقدت في الثلاجة منذ يومين، وضعتها وسط الرغيف وحمدت الله على ما أنعم.
ذكرتني أمي بخطوات إعداد المقبلات وهي توصلني الى الباب وقالت: (لقد كتبت لك في هذه الورقة طريقة العمل والمقادير أقرأها وأنت تسير)، بعدها طبعت قبلة على جبيني وقالت بصوت بحت أمشاجه: (استأمنتك عند الله وأوكلت أمرك للذي أنت بجواره) وتراءت دمعة رقراقة لمعت بين جفنيها.
قطعت نصف الطريق وأنا أحفظ وصايا أمي ومقاديرها، فسمعت صوت كرار وهو يصدح: ( أحمد... أيها الكسول أتدري كم هي الساعة اﻵن، لقد أنتظرتك كثيرا لم يبق من موعدك مع عمي سوى نصف ساعة وما زال الطريق أمامنا بعيد)، فأجبته: (سأريك من هو الكسول يا صاحب الطبقات من الشحوم المتكدسة).
قلتها وانطلقت أركض كسهم طاش مقره.
وصلت إلى باب محل المأكولات السريعة قبل الساعة السادسة بخمس دقائق، عندها وصل العم وقال: (يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم) وهو يفتح باب المحل، فألقيت السلام عليه، تفرسني بنظرة طويلة وقال: (وعليكم السلام، أدخل ورش بعض الماء أمام المحل ونظف هذه الطاولة).
أخذت دلو الماء إذا بكرار قد وصل وشهيقه لا يردفه زفير.
استغرب العم وهو يرى تقاطر جبين كرار وقد أبتل قميصه فبالكاد ألقى التحية (أستمتعت بالجري يا عمي.. إنها رياضة صباحية جيدة)، وهو يرمقني بنظرات أما أنا كنت ما أزال أشعر بنشوة الانتصار.
أقترب العم مني وطلب أن أعد أول اﻷطباق التي أجيدها، سرعان ما تراءى لي وجه أمي وصوتها وهي تخبرني عن سر مذاقها الفريد... (يا إلهي لا أتذكر جيدا فقد كنت متعبا البارحة)، طلبت من العم أن يمهلني دقائق لكي أقوم بغسل يدي، وكان أول شيء أستحسنه العم مني، فرحت أتذكر بعض الخطوات....
أنهيت يومي اﻷول مع كرار والعم وكان يوما مختلفا عن بقية أيامي، ثم عدنا أنا وكرار الى البيت، كانت أمي تنتظر أن أسرد لها بطولات قرة عينها أمام رب العمل.
بعدها بدأت أذهب كل يوم مع كرار وكنا نتسابق للوصول إلى محل العم، كان من السهل جدا أن أسبقه في كل مرة إلا أنني كنت في بعض اﻷحيان أرجع الى الوراء حين ألمح كرار ساقطا على الارض، وسرعان ما يسحبني ويوقعني أرضا ويبدأ هو بالجري بعد أن أخذ قسطا من الراحة والتقط أنفاسه.
سرعان ما أحببت حياتي الجديدة مع كرار والعم فكلهم قد أضافوا الى عالمي نكهة جديدة لم أتذوقها من قبل ولم أعد أرغب بالاستغناء عنها، أصبح كرار يشاطرني كل شيء طعامي، قلبي، وحتى انفاسي كان أهتمامه بي كأهتمام صانع خواتم بتلميع أحجاره الكريمة.
وحدث يوما أن ذهبنا الى العم وكان الزبائن كثر والطلبات متأخرة، بدأنا نسرع في كل شيء، كان اﻷرتباك واضحا علينا، وبينما يقف العم قرب المقلاة أندلق من يده الزيت وألتهبت ألسنة النار، كتنين جائع ينفث ناره غضبا، صرخ العم بنا ابتعدوا وهو يحرك يده المحروقة للأعلى واﻷسفل، كان بقربي غطاء سميك يستعمله العم للف بعض أغراض المحل ليلا، خطفته بحركة سريعة وهجمت على مصدر النار وأخمدتها والعم يصرخ بي: ( أحمد ابتعد...ابتعد..).
وسرعان ما قضيت على التنين وأغلقت فمه... بقي العم متعجبا مستغربا كيف لي أن اخمد النار التي اعتلت، ويده تسعر من شدة اﻷلم، أقتربت منه وأدنيت له احد الكراسي ليجلس، وضعت بعض السكر على يده وأخبرته هكذا تفعل أمي ليمتص السكر الحرارة.
أخذ الزبائن بالانسحاب الوحد تلو اﻷخر، وما زال وقت ذروة العمل لم ينته بعد، خاطبت كرار وقلت: اغسل المقلاة وسوف أتصرف، نظفنا المكان قدر المستطاع وأعدت ايقاد شعلة النار تحت المقلاة. بدأ الزيت يغلي وأنا أراقبه بحذر شديد، كان اﻷمر صعبا بعض الشيء إلا أني أستطعت أن أنهي اﻷمر على أتم وجه.
كان العم يقسم نظراته بيني وبين يده التي أخذت تتلون باللون القرمزي، ناولت الطلبات للعدد اليسير الذي صمد أمام ضغط الانتظار، شعرت حينها أنني بالفعل بدأت أكبر.
في اليوم التالي كان العم قد ذهب الى المحل عندما بدأ المشيب ينثر على سواد ليل طويل مر عليه وقد لف يده بمنديل أبيض وهو يردد عبارات الحمد والثناء للخالق الذي دفع البلاء.
خاطبته قائلا: (لا عليك سوف نقوم بالعمل أنا وكرار.. اجلس أنت).
بعد أن سميت بأسم الله وعلى بركته وصليت على النبي وأهل بيته بدأنا العمل وأستطعنا أن نلبي طلبات جميع من تقاطر على شراء الطعام.. يتبع
اضافةتعليق
التعليقات