كان السير في طريقي اليومي أقصى متعة أحصل عليها، فقطرات الندى وفصل الربيع تلبسان قامة الشجيرات أبهى حلة كعروس زينت لتخطف أنظار المحتفين بها، وأشعة الشمس ترسل أطواقها الذهبية قلائد تنساب بين أعناقها وأساور حول المعاصم.
تحملني قدماي إلى نزول الوادي الذي يتسع شيئا فشيئا، ويحتضن بين ذراعيه كل قادم، كأم وصل وحيدها للتو، أسرح في وجوه المارة وأدقق في طيات أزيائهم المختلفة وانا أجوب بلدانهم في رحلة أكتشاف الشعوب ببطاقة سفر مجاني، وان جهلت بعض لغاتهم فألوان الساري الهندي، الجادور الايراني، العباءة الخليجية، وحتى ما غرب من القبعات تكشف للقاصي والداني هوية اصحابها.
راح كل ذي لهجة يصطف في تسلسل نظم يصعب اختراقه استعدادا لدخوله إلى غرفة التفتيش.
أنظار تترامى أطرافها يمينا وشمالا تخرق ثقبا صغير في قميصي المتعاقب اﻷعمدة في مسير خطوط اﻷحمر واﻷسود، رحت أصنع له مخبأ بين أصابع كفي اﻷسمر (آه أمي... ألم أطلب منك اغلاق فم السمكة المفتوح في قميصي)..
تسرب اﻷلم الى وريدي بعد ما ذكرت أمي...
ما ان وصلت الى بوابة السوق واذا بالاصوات تتعالى ويدخل الثامن والعشرون حرفا في صراع للولوج الى طبلة أذني، فكل يغني معزوفته الصباحية متغزلا ببضاعته المزجاة فوق صناديق بلون تراب هذا البلد اﻷسمر المتشرب بالحمرة.
ركضت الى اﻷقتراب من إحدى العجائز للترويج عما أبيعه،
(خالة تفضلي إنها أكياس لحمل الفاكهة... خالة أكياس جيدة وقوية)،
نهرتني تلك الطاعنة بالسن ولا سن لها (ابتعد ماذا تريد مني لن تسرقني ايها الولد)،
ابتعدت عنها ورحت أنادي من جديد على بضاعتي،
اقتضم النهار صباحه وبدأ بتناول الظهيرة وأنا لم أبع سوى كيس واحد.
أنفقعت بالونة في رأسي فناديت بأعلى صوتي (أكياس الفاكهة قوية... سأحمل أمتعة كل من يشتري من أكياسي)..
تساءلت في نفسي هل هذه فكرة صائبة، ماذا لو كانت اﻷكياس ثقيلة جدا هل أستطيع حملها؟.
أدركت إني مع وجود هذا الكم من اﻷولاد الذين يبيعون اﻷكياس لن أستطيع أن أحظى ببيع ماعندي الا عبر هذه الخطة.
انطلقت الى تلبية طلب إحدى النساء التي تساءلت عن حقيقة وعدي الذي قطعته فأجبتها بالتأكيد، حملت لها أكياس الخضار وأوصلتها الى موقف السيارة، كانت قد أشترت كل ما روج له وما لم يروج، فيداي أصبحت تنوء من ثقل ما اشترت.
ناولتني ثمن بخس بعدها أدارت محرك سيارتها بكل قوته وهديره ونفثت كاربونا أغلق منافذ النور والهواء، بالكاد كنت أتنفس وكأنها تقول (إنك لن تحصل على أكثر من هذا اذهب ولا تتحذلق مرة أخرى..).
جلست قليلا ﻷلتقط أنفاسي، شاهدت أحد اﻷولاد وهو يلتهم كعكة بشهية ويرفع العصير الى أطراف فمه فتذكرت ما قد كنت تناسيته متعمدا.
سأكافىء نفسي بجرعة ماء من أحد البرادات، فتبللت شفتاي بماء شبه بارد، سقطت عيناي على عبارة مخطوطة فوق جبين البراد باللون اﻷسود:(السلام على الحسين وعلى علي ابن الحسين) استدرت بوجهي ورفعت كفي وكررت العبارة وخاطبته: (السلام على الحسين وعلى علي ابن الحسين)، انسابت دمعة من عيني اختلطت بقطرات الماء فسقطت أسفل شفتي، واذا بصوت المؤذن يرتفع من منارة الحرم الشريف لسيد الشهداء.
بعدما أستعدت بعض قواي التحقت بالمصلين في الصف اﻷخير لمسجد السوق تباطأت حركتي بعد مضي ساعات العمل، أنهيت الصلاة وحمدت الله على ذلك.
وبينما تحرك محور نظري بين المصلين سقطت نظري على ملامح وتقاسيم قد ألفتها من قبل (إنه كرار زميلي في المدرسة) أشحت بوجهي علني أستطيع ان أخبىء رأسي بين أكتاف الرجال، كنت أخشى من أكون موضع سخريته أو ربما شيء في داخله.
لكنه سرعان ما ألتقطني من بين أطوال مختلفة، رفع صوته (أحمد... أحمد) فتجاهلت نداءه... ثم رفع صوته كمستغيث في غمرة إعصار (أحمد) لم يكن بد من أن أجيبه (أهلا كرار ) اقترب مني وطوقني بذراعيه، وهو يرسم ابتسامة عريضة على محياه.
أحسست بصدق مشاعره عندما سحبني وأجلسني على دكة قرب باب المسجد
قال وهو ينظر الي بعينين ملؤها الحبور: (أيها الولد الشقي لقد كبرت وبدأ وبر شاربيك يخط تحت أنفك الطويل)، كان مزاحه وضحكاته تملأ مسامع المارة فأجبته: (لن يرى أحد شاربيك، فأنفك الكبير يملأ وجهك)..
نظر بإمعان على ملابسي ووجهي المتعب الشاحب، أراد أن يبادرني السؤال هذا ما قرأته في عينينه، لكنه أدار دفة الحوار إلى جهة أخرى: (أنا أعمل في محل عمي القريب من هنا، أجهز معه المقبلات وهو بحاجة إلى مساعد آخر هذا ما أخبرني به صباحا، لم لا تأتي معي؟)..
نظرت في وجه كرار وهو يرتقب ردي هل سيكون ايجابيا أم لا، أردت أن أقول شيء لكن الارتباك أخمد نارا توجهت على وجنتي واستغرقت في صمتي فبادرني (إن كنت لا تستطيع الرد تعال معي وليتعرف عليك عمي ثم قرر ستوافق أم لا).
عندها أدركت إني على مقربة من ولادة جديدة في شخص جديد.
رحت أسير معه بخطوات ثقيلة ودقات قلبي تعنف صدري بقوة، دخلنا محلا صغيرا لبيع اﻷكلات السريعة اصطف ثلاث رجال وطفلان لشراء (السندويج) وفي جانب آخر جلس خمسة رجال على طاولة مستديرة زرقاء اللون وضع في منتصفها إبريق ماء ومملحة صغيرة وهم ما زالوا ينتظرون ما طلبوا تناوله فرائحة الطعام الشهي تسلي أنوفهم وتغازل جوعهم، يأتي رجل أربعيني قد خالط البياض عارضيه، أسمر اللون طويل القامة يرتدي بنطال (كابوي) وقميص كحلي، يبادر بسؤال كرار (هل هو صديقك؟) بعدما رمقني بنظرة حادة بعض الشيء فيجيبه كرار (نعم يا عمي، أنت قلت لي نحتاج من يساعدنا في إعداد المقبلات فيشيح بوجهه عني و يسألني: (ماذا تعرف عن إعداد المقبلات؟).. وقتها تسمرت في مكاني وكأني لم يخلق لي لسان أبدا ولم أحظ من الخالق إلا بطول قامة فقط.
استدرك كرار الحديث وأجابه عوضا عني (نعم يعرف ياعمي.. بالتأكيد إنه يعرف)، قهقه بصوت عال وقال عم كرار: (إني أعرفك يا كرار... اسمع جيدا أي تقصير في عمل صديقك سوف يكون آخر يوم لك هنا)..
ثم قال:(أذهبا اليوم أنتما اﻷثنين لقد شارف عملنا على الانتهاء.. أسمع يا.. ما أسمك؟)،
فأجابه كرار:(أسمه أحمد)، رمقه بنظرة ثم قال عم كرار بعبارة مشككة لقدومي (غدا في تمام الساعة السادسة صباحا اذا لم تأت فلا داعي لقدومك)، هززت رأسي بالقبول والاذعان لهذا التحدي.
سرت برفقة كرار للعودة إلى البيت تذمرت ورحت أستشيط غضبا (لم نتفق على هذا كله، لن آت غدا) وأنا أركل بقدمي قنينة ماء فارغة (لم قلت لعمك إني بارع في إعداد المقبلات، لم أخبرته إني أستطيع ذلك؟!؟ سأقول لك شيئا، إعلم أن أقصى ما أجيده هو تقشير الخيار فقط، سوف تنال ما وعدك به عمك).. يتبع
اضافةتعليق
التعليقات