من أعلى الدار أشرفت امرأة وهي تنظر إلى نساء حاسرات الرؤوس، أردفت قائلة بهدف أن تستوثق خبر الحدث فلم تر مثل هذه القافلة يوماً وما يكسوها من الحزن واللوعة وكيف هي خطوات أقدامهم دموع من الدم الذي لا يتوقف وجرح ما ظنته أنه سيندمل على أثر خطواتهم التي كانت تعانق تربة تسير عليها حتى تترك أثرا مؤلما بعدها، فادنت رأسها من إحدى السبايا وسألتها: من أي الأسارى أنتن؟ فقالت لها: نحت أسارى أهل بيت من آل محمد.
لحظات قليلة فصلت بين الثرى والثريا، سحبت المواقف نفسها وامتثلت لأمر الله إنها ماكانت تعلم من وقفت ضده، صدح الخبر بين الناس فضجت الأصوات متعالية، الشوارع ماعادت تحمل الأقدام عليها بسحنها الكالحة من شدة الألم غير المتوقع، توقفت لهول الصدمة باكية وأعلنت للملأ أنهن سبايا أهل البيت، فعلا الصراخ والنحيب، وتراكضت النساء إلى الموكب يقذفن عليه الأزر والمقانع ليسترن بها بنات الرسالة، وارتجت الكوفة كلها بالندب والبكاء.
فبرزت درة هاشمية عظيمة، وبضعة موسوية طاهرة، حباها الله تعالى شرف الأصل ونور المنبت، وهبها عقلاً راجحاً، وفكراً صافياً نقياً فصارت من العالمات العاملات وهي في ريعان الشباب، وما ينقل عن فضلها وعلمها قد يكون خارجاً عن المعروف والمألوف، فعندما رأت العقيلة أهل الكوفة في هذه الحال أشارت إليهم بالسكوت، ولما هدأت الأصوات توجهت بكلمة، تذكر بمنطق أبيها (عليه السلام) وتكشف حقيقة ما انطوت عليه قلوب أهل الكوفة من الغدر والخيانة، وتبشرهم بسوء العاقبة والمصير، وكان مما قالته لهم: «أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون، فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ألا وهل فيكم إلا الصلف وملق الإماء وغمز الأعداء، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون».
وهي خطبة مملوءة بالمعاني المعبرة، والدلالات الواضحة على ما تمتلكه السيدة الحوراء من عمق معروف بالمجتمع، وسعة اطلاع ودقة إدراك في المسائل الدينية، وسمو في النفس، وتعال على الجراح والمأساة، حتى كادت تلحق بالمعصومين (عليه السلام)، وهزت عرش الطغاة وأثارت في النفوس جراحا لا تلتئم حتى كاد وقع كلامها أن يفقد الظالمين عروشهم الخاوية كشبكة العنكبوت مهزوزة الأركان بلحظتها، عمود كلماتها قطع شبكة العنكبوت تلك داخل نفوس المحيطين، في حين ظن الأمويون أنهم استطاعوا النيل من النبي (صلى الله عليه وآله)، بمقتل سبطه الحسين (عليه السلام) وأصحابه وذريته، وحسبوا أن يدهم قد بسطت على هذه الأمة، وأنهم أصبحوا قادرين على فعل ما يشاؤون، دون أن يردعهم رادع، ليرفعوا من مستوى نكايتهم بذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسبوا نساءهم.
ولكنهم لم يدركوا أن في ذلك بداية فضحهم أمام الملأ، وأن هذا السبي، وإن كان إذلالا لبنات الرسالة بحسب الظاهر، ولكنه في حقيقة الأمر ثمرة مباركة من ثمرات الحركة الحسينية، وشرط أساسي لإنجاحها على المستوى الإعلامي العام، لبيان أكذوبة الأمويين في انتمائهم إلى الإسلام، من خلال مواقف الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والحوراء زينب وأم كلثوم، وغيرهم من أهل بيت النبوة، وكان هذا السبي مضافا إلى قتل الحسين (عليه السلام) أثرا بالغا في تثبيت الحق، وإعادة الرونق والأصالة إلى دين الإسلام، بعدما كادت دعائمه أن تنهار في عالم النسيان والإهمال.
وحين أراد ابن زياد أن يزيد من رعب الناس حتى لا يفكر أحد منهم بالقيام ضده، ولذلك بث كل سمومه أمام الملأ وأراد أن يبين أنه فعل ذلك بدافع ديني ليرضوا عما فعله بآل البيت، ولذلك تراه عندما توجه إلى زينب (عليه السلام) وقد أدخلت عليه، فسأل عنها، فلما عرفها قال لها: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، ولا يخفى أنه أراد بهذا الكلام أن يعطي فعله الشنيع بعضا من الشرعية في أعين الناس، ولذلك كان جوابها صاعقا له وبلسان قائدة عظيمة استمدت نورها من الله، حين أجابته جواب مليء بالدلالات المعبرة: الحمد لله أكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا.
فهي أرادت أن تبين له أنه من نسل غير طاهر، فهو ابن زياد ابن أبيه، الذي ولد من سفاح، وأنه فاسق وفاجر، واستطاعت أن تفضحهم ومن ورائهم، و تبرز حقانية حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، وتؤسس للحركات التي تلت هذه المأساة، مما أدى إلى زوال حكم بني أمية.
إنه لمجرد التفكير في وجود الله أمر مريح، من حيث أن هنالك دوما شيء أعلى من الإنسان، قوة عادلة ورحيمة وفي الوقت ذاته جبارة، وبينما نحن عامة الناس حينما نستشعر هذا الوجود في أي لحظة تنتابنا قوة من الخفاء، فكيف هو حال من يعرفون الله حق المعرفة تلك الدوحة النبوية، والشجرة العلوية، والسلالة الموسوية، وآية من آيات الفضل والعظمة، حيث وقفوا وهم يستشعرون وجود الله بكل خطواتهم وأفعالهم وأقوالهم وكانوا ماثلين لأمره دون تراجع أو أي خوف يطال أجسادهم.
اضافةتعليق
التعليقات