ها نحن نعود مرة أخرى إلى السوق العتيق، حيث تُباع الأوهام بأغلى الأثمان، في هذا الزمن الذي أصبحت فيه الكلمة أضعف من أن تُقال، والوعود تُوزع مع السلات الغذائية، ولم تعد الحكمة ضالة المؤمن وحده، بل أصبحت غنيمةً لمن لا يخشى الفضيحة، فالسياسة هنا بئرٌ لا قعر لها، ننزل فيها بحبل الوهم، ونخرج بصورة الانتخابات.
ومن هذا المنطلق، جمعتُ لكم وصايا عجائز القبيلة، ممن رأوا بأعينهم كيف تُخبز الوعود على نار الانتخابات وليست هذه وصايا للاختيار، بل هي "وصايا مسمومة" لتعلمكم كيف تهربون من فخ الأسوأ.
الوصية الأولى: "إياك وعدوك.. وصديقك"
في معترك السياسة، يا صديقي، ليس هناك صديق دائم ولا عدو أبدي إنما هم شخصيات في مسرحية كبيرة، يتبادلون الأدوار حسب الحاجة والذي كان يصفق لك بالأمس قد يصبح غداً من ألد خصومك، والذي كان يعدك بالجنة قد يبيعك بثمن بخس فالخط الفاصل بين الصديق والعدو هنا كخطوط الكهرباء في الماء موجودة لكن لا تراها حتى تصعقك، فكن حذراً، ولا تثق بابتسامة إلا بعد أن تعد أسنانها، فمهمة أن تختار الأفضل بينهم هي الأصعب ولو فكر المرء قليلاً واعترف أن الحكمة ضالة المؤمن لوجد الحل في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (ثُم انظر في أُمُور عُمالِكَ فَاستَعمِلهُمُ اخْتِبَاراً، وَلَا تُوَلهِم أمُورَكَ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً)، وهل تفعل الجماعات التي تلتف حولك هذا الآن؟
يكمل عليه السلام:«فَإِنهُمَا جمَاعٌ مِن شعَبِ الجَورِ وَالْخِيَانَةِ للَّهِ وَإِدخَالُ الضرَرِ عَلَى الناسِ وَلَيسَت تَصلُحُ الْأُمُورُ بِالْإِدغَالِ».
والإدغال يعني الدخول في الأمر على وجه الفساد والإفساد والخيانة، والداغل هو الذي يبغي إصابة الشر ويضمره لهم، وهم يحسبون أنه يريد لهم الخير، وهذه قاعدة مهمة يوضحها الإمام (عليه السلام) .
الوصية الثانية: "إذا تكلم المرشح فاجعل أذنك منخلاً"
إن كلام المرشحين كالقمح المخلوط بالتبن، يحتاج إلى غربلة دقيقة، فإذا تكلم المرشح، فدع أذنك تكون كالمنخل الذي يمسك بالدقيق وهو تلك الكلمات القليلة التي قد تخدم مصلحتك ويسقط القشر وهو كل ما عداها من وعود معسولة وكلام منمق، فإياك أن تسمع كلمتي "تطوير" و"تحسين" فتظن أن الأمر يعنيك عزيزي، فالكلمات وحدها لا تطعم خبزاً ومن صافح القاتل في الأمس لن يهبك الحياة غداً، وتذكر جيداً قول الامام علي (عليه السلام): «واعلم أَن شَر وزَرَائِكَ مَن كَانَ لِلأَشرَارِ قَبلكَ وَزِيراً، وَمَن شرَكَهُم فِي الآثام، وقام بأمورهم في عِبَادِ اللهِ، فَلَا يَكُونَن لَكَ بِطَانةً تُشرِكُهُم فِي دولتِكَ، كما شركوا في سلطان غَيركَ، فَأَورَدُوهُم مَصارع السوء»،
وهذا يعني أن تلك نقطة سوداء مظلمة في السيرة الذاتية لأي مرشح لمنصب ما في الحكومة، كما يعني أن علينا أن لا ننخدع بتغييرهم الشعار والوشاح واللون والصبغة، فإن أعماقهم لا تتغير بذلك، بل هي المصالح، فإذا وجدوا أدنى فرصة أدخلوا وأدغلوا وأفسدوا.
الوصية الثالثة: "لا تبع كرامتك بثمن بخس.. دعه يزيد في المزاد"
وعود المرشحين سلعة في سوق المزادات، تزداد قيمتها كلما اقترب موعد الانتخابات، لا تكن كالتاجر الساذج الذي يبيع بضاعته عند أول مشترٍ وبأقل سعر، دع العطايا تتكاثر، والوعود تتضخم، ولكن اعلم أن الأهم كرامتك كلؤلؤة نادرة، فلا تبعها بثمن بخس وأنت من يقرر هذا، هل ثمنها أموالٌ تنفذ غداً، أم واقعٌ حقيقي يرثه أطفالك على مدار السنين.
الوصية الرابعة: "إذا دخلت معركة.. فابحث أولاً عن مخرج"
الحكيم من يدخل المعركة وعينه على طريق الهروب فلا تتعصب لمرشح حتى تفقد القدرة على التراجع، ولا تربط مصيرك بمصير أحد حتى لا تغرق معه، احتفظ بمسافة تسمح لك بالرؤية والنقد والانسحاب إذا لزم الأمر، واختر من بينهم من كان فيه ولو جزء مما ذكره سيد البلغاء امير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: «اختر للحكم بَينَ الناسِ أَفضَلَ رَعِيتِكَ فِي نَفسِكَ وأنفُسِهِم للعلم والحلم والورع والسخاء، مِمن لا تضيقُ بِهِ الأمور، ولا يُمَحكهُ الخصوم، ولا يتمادى فِي إِثبَاتِ الزلةِ، ولا يَحصَرُ مِنَ الفَيءِ إِلى الحَق إِذا عَرَفَهُ، ولا تُشرِفُ نَفسُهُ عَلَى طَمَع ، وَلا يَدخُلهُ إِعجَابٌ ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه»
وفي النهاية هذه وصايانا المسمومة احفظها جيداً لأنك وبعد كل هذا الحذر، وبعد كل هذه الغربلة، وبعد أن تظن أنك أصبحت أذكى من أن تُخدع ستخرج في يوم الانتخابات، وتنظر إلى وجوه المرشحين جميعاً، فستجد أن الخيارات الحقيقية ليست موجودة أصلاً، ستجد أن "المنخل" الذي هيأته قد لا يجد ما يغربله، وأن "المزاد" كله وهمي، وأن "المخارج" التي خططت لها تؤدي كلها إلى نفس الساحة الفارغة وقد تكتشف أن أعظم الوصايا المسمومة هي تلك التي تُوهمك بأن لك خياراً، كانت هذه وجهتي وربما متشائمة ،ولك الحق بأن تضع بصمتك الإيجابية، إن أحببت كأن ترى الحل في تمييز الصديق من العدو في دوامة الأدوار، وتركز بفعلٍ واحد ملموس باحثاً عن "البذرة" كمشروع صغير أُنجز، أو قضية دُفع ثمنها عندما لم تكن فيها مصلحة لتجد ما يمنحك أملا بأن شيئا يمكن أن ينمو.
وبعد هذه الجولة السريعة لا بد لنا من أن نتوقف لنستعرض ببعض التفصيل الحديث عن العلماء والفقهاء والخبراء باعتبارهم الركن الأول والمقوم الأكبر في عملية الإصلاح فنقول:
إن النهوض بالبلاد واصلاحها تحتاج تكاتف من جميع الأفراد وليس الانسحاب حلاً سليما دوما فلو خليت قلبت وحاشا لله بأن يترك الأرض خالية من عباده الصالحون الذين زرع فيهم بذرة الصلاح ومنها إلى التقوى وما زال هناك مسؤولين أكفاء وخبراء أتقياء يتقون سخط الله تعالى وغضبه ويتجنبون معصيته، واجعل خيارك ما أمر به الامام علي (عليه السلام) في وصاياه باختيار القائد : "وَاخْتَرْ لِأَطرَافِكَ قُضَاةً تُجتَهِدُ فِيهِمْ نَفْسَكَ، لاَ يَخْتَلِفُونَ وَلَا يَتَدَابَرُونَ فِي حُكْم الله وَسُنَّةِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله). فَإِنَّ الاخْتِلَافَ فِي الحُكْمِ إِضَاعَةُ لِلْعَدْلِ، وَغِرةٌ فِي الدِّينِ، وَسَبَت مِنَ الفُرقَةِ".
وهذا مايدعونا للتفكر حتى لو كانت الخيارات محدودة، هذا لا يلغي مسؤوليتنا في البحث عن "البذرة" الصالحة التي يمكن أن تنمو، والإصرار على المشاركة الواعية لأن المعركة الحقيقية على المصير لا تنتهي بترك الساحة فارغة، فالبقاء حاضراً وناقداً هو السلاح الأقوى في مواجهة خيبات الأمل، وبناء مستقبل لا تُهدر فيه القيم في سوق المزايدات.








اضافةتعليق
التعليقات