في صمت ليلة وادعة، حيث تنساب أنفاس التأمل كنسيم هادئ، جلستُ في زاوية مجلس النور، أراقب شعاع الضوء وهو يرقص على وجوه الحاضرين. انسابت كلمة منه مسرعةً إلى أعماق فكري، هي عبارة شدت خيالاتي وأثارت تساؤلاتي، حيث قال: "الحياة السعيدة مبنية على الإحسان المتقابل، وليس العدل".
كان الحديث يدور حول العدل والإحسان، كلمتان تترددان في سماء الفكر الإنساني منذ فجر الوعي مع كل كلمة تنطلق من أفواه العلماء. كنتُ أشعر بأن شيئاً عميقاً في أعماق روحي يهتز، كوترٍ قديم عاد للاهتزاز بعد سكون طويل.
لماذا، رغم كل عدل نطبقه، تظل النفس البشرية تبحث عن شيء آخر؟
لماذا نشعر أحياناً وكأن العدل، بكل صرامته المنطقية، يشبه هيكلاً عظمياً صحيحاً لكنه يفتقد اللحم والدم والدفء؟
أوليس في الإنسان شوق فطري إلى ما يتجاوز الحساب والمقاييس؟
شوق إلى لمسة إنسانية تذيب الحدود، وتبادل عطاء لا ينظر إلى الميزان، ولكنه يزرع بذوراً تعود حصادها مضاعفاً، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
السعادة بين العدل والإحسان
إن العدل هو القاعدة الأولى للحياة الإنسانية المنظمة، هو النظام الذي يمنع الفوضى، والميزان الذي يحفظ الحقوق. في العدل ينال كل ذي حق حقه، ويُردع الظالم، ويُحمى الضعيف. جوهره يمنع الظلم، لكنه لا يخلق المحبة، هو يحفظ التوازن، لكنه لا يولد الانسجام.
حيث يقول الله تعالى في محكم كتابه:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
ترتيب بديع، العدل أولاً ثم الإحسان، فالعدل هو الأرضية الصلبة، والأساس المتين الذي لا يمكن البناء بدونه، لكن البناء الحقيقي، البناء الذي يسكنه البشر بقلوبهم وأرواحهم، يحتاج إلى ما هو أكثر من أساس.
أما الإحسان فهو الجسر الذي يربط القلوب، وهذا المفهوم الأعمق والأشمل؛ فالإحسان ليس مجرد فضيلة أخلاقية، إنه رؤية كونية وطريقة وجود. وهو يتجلى في مستويين:
الإحسان في العبادة:
هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. هذا الإحسان هو اتصال روحي، حضور قلبي، يتحول معه أداء الواجب إلى لقاء محبة.
الإحسان في المعاملة:
وهو ما يعنينا هنا، هو التجاوز الإيجابي عن حدود العدل إلى فضاء التفضل، أن تعطي أكثر مما يجب، وأن تتنازل عن حق لك لتربي في نفس الآخر معنى أسمى.
ولقد أدرك أئمتنا وعلماؤنا هذه الحقيقة الإنسانية العميقة، فرأوا أن السعادة الحقيقية لا تُبنى بالعدل وحده. فقد ذكر الإمام علي (عليه السلام):
"ألزم نفسك التودد، وصبر على مؤنات الناس نفسك"
هذه العبارة تحمل ثورة في المفهوم، فالإمام لا يقدم التودد كمجرد خُلق كريم، بل يوضح ضرورة إلزامه، بإدراك أن الإنسان كائن اجتماعي، وأن سعادته مرتبطة بسعادة من حوله، وأن بناء الجسور أجدى من إقامة الجدران.
التودد هنا هو الإحسان العملي؛ هو الابتسامة، هي الكلمة الطيبة، هي السؤال عن الحال، هو العفو عند المقدرة. إنه العقل الذي يدرك أن الحياة معادلة إنسانية، كل ما تقدمه يعود إليك مضاعفاً، ولو بعد حين.
وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، محدداً معالم الإحسان المتقابل، فيقول:
"ثلاثٌ من مكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم عن جهل عليك"
مبيناً أن:
العفو عمن ظلمك: العدل يقتضي القصاص أو المطالبة بالحق، لكن الإحسان يتجاوز ذلك إلى العفو؛ لأنه يقطع دائرة الكراهية، ويحرر النفس من أسر الماضي، ويفتح باباً للتوبة والصلح.
وصل من قطعك: العدل قد يبرر المقاطعة بالمقاطعة، لكن الإحسان يأمر بالوصل؛ لأنه يرى في القطيعة مرضاً يحتاج إلى علاج، وجرحاً يحتاج إلى مداواة.
والحلم عن جهل عليك: العدل قد يدفعك إلى الرد على الجاهل بجهله، لكن الحلم يحول الجهالة إلى فرصة للتعليم والتربية.
وهذه المكارم ليست ضعفاً، بل هي قوة نفسية وأخلاقية هائلة، هي انتقال من رد الفعل إلى الفعل الإيجابي.
الإحسان المتقابل.. ديناميكية العطاء والاستمرارية
الإحسان “المتقابل” ليس مقايضة تجارية، بل هو ديناميكية إنسانية طبيعية. حين تُحسن إلى آخر، تزرع في نفسه بذرة الخير، هذه البذرة تنمو، وتدفعه هو للإحسان إليك أو إلى غيرك، وهكذا تدور دائرة الخير.
فالبذار لا يعطي حصاده فوراً، ولكنه يعطي لا محالة، وهذا ما يجعل الإحسان استثماراً حقيقياً في السعادة، لكنه استثمار روحي أخلاقي.
فالتوازن الأعلى عندما يصبح الإحسان هو القاعدة؛ فرغم أن العدل يخلق توازناً اجتماعياً وقانونياً، لكن الإحسان يخلق توازناً أعلى، توازن القلب والروح، المشاعر والعلاقات.
فمجتمع العدل هو مجتمع آمن من الظلم، لكنه قد يكون بارداً، أما مجتمع الإحسان فهو مجتمع دافئ، متراحم، تتعاون فيه القلوب قبل الأيدي.
والحياة السعيدة تشبه حديقة غنّاء، العدل فيها هو السياج الذي يحمي الحديقة من العابثين، لكن الإحسان هو الماء الذي يروي، والشمس التي تنير، والهواء الذي ينعش.
لذلك لتكن حياتنا على هذا النمط: نرسي قواعد العدل كأساس متين، لكننا نبني عليه قصور الإحسان. نطبق العدل حتى لا نظلم ولا نُظلم، لكننا نتجاوزه بالإحسان لنسعد ونُسعد.
العدل يحفظ لنا حقوقنا الدنيوية، لكن الإحسان يخزن لنا كنوزاً في السماء، وفي القلوب، وفي ذاكرة الإنسانية.
العدل يجعل الحياة ممكنة، لكن الإحسان يجعلها جميلة.
وهذه هي الحياة التي تستحق أن تُعاش، بقلوبنا قبل عقولنا، بمشاعرنا قبل حسابنا، حياة يكون عنوانها الرحمة قبل القانون، والتعاطف قبل الحقوق، والعطاء قبل الأخذ.
عندها فقط نتذوق طعم السعادة الحقيقية، ونكون كما أرادنا علماؤنا بشراً بإنسانية كاملة، نعيش العدل، ولكننا نحلق في سماء الإحسان.








اضافةتعليق
التعليقات