تتجاوز ولادة الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) حدود الحدث التاريخي المجرد، لتبين كلمةً إلهية نزل بها الوحي على واقع الأمة في لحظةٍ فارقة، وإن قراءة هذا الميلاد من نافذة كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تمنحنا رؤيةً كونية للإمامة فحين يقول: "بِنا يُفتَحُ اللهُ، وبِنا يُختِمُ، وبِنا يَسُوقُ العِبادَ"، ويؤكد الامام الصادق عليه السلام ذلك بقوله : "نحن أصل كل خير ومن فروعنا كل بر"، فإنهم يضعون لنا خارطة طريق لفهم تجليات الإمام الجواد كفتحٍ مسبق، وسوق للحق، وختم لمرحلة تأسيسية بمحاور تنظم حياة الامة الاسلامية في زمانه بل وفي كل زمان بمحاور عديدة.
أولاً: ميلاد الحكمة "فتحاً" قبل أوان السؤال
لطالما كان التوقيت الإلهي جزءاً من المعجزة ففي اللحظة التي استشهد فيها الإمام الرضا (عليه السلام)، برزت المعضلة الكبرى: إمامة الصبي ، كيف لطفلٍ في الثامنة أن يقود أمة تضج بالفلاسفة والمتكلمين؟
وهنا يتجلى الإمام الجواد كفتح إلهي، إذ أعد الله الحل قبل أن تستفحل الأزمة ، ولقد كان ميلاده الميمون برهاناً عملياً على أن الإمامة "موهبة لدنية" لا تخضع لمعايير البيولوجيا أو تراكم السنين، بل هي تجسيد لقول الامام الصادق (عليه السلام): "فالعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء".
ولولا هذا الفتح لاهتزت أركان العقيدة، لكن الله جعل من صغر سنه معجزةً تخرس الألسن، تماماً كما أنطق عيسى في المهد، ليعلن أن "الأصل العلوي" يفيض بالبركة في كل حين.
ثانياً: "سوق العباد" ونقض النزعات الجاهلية
لم تكن ولادة الجواد (عليه السلام) من السيدة الطاهرة "سبيكة النوبية" مجرد قدرٍ عائلي، بل كانت سوقاً ربانياً للعباد نحو جوهر الإسلام ، فلقد حطم هذا الميلاد أصنام الطبقية والتعصب العرقي التي بدأت تتسلل لمفاصل المجتمع الإسلامي ، ومن خلال الإمام الجواد، "ساق" الله القلوب نحو إدراك حقائق كبرى:
• الحكمة لا تُؤتى بالأنساب بل بالاصطفاء الإلهي.
• النقاء لا يحده لون فالمعدن الطاهر قد يتجلى في أسمى صوره من وعاءٍ وسمه المجتمع بالبساطة، وهنا نرى وصف أمير المؤمنين يتجسد: "قَد أَحيَا عَقلَهُ، وَأَمَاتَ نَفسَهُ، حَتى دَق جَلِيلُهُ، وَلَطُفَ غَلِيظُهُ"، لقد لُطفت "غلظة" التفاخر بالأحساب بجمال الحكمة الجوادية، وساق الناس ليعلموا أن الجليل من علم الله يسكن في أصفى القلوب وأتقاها.
ثالثاً: الختم والبدء: هندسة الدورة الجديدة
يمثل الإمام الجواد في سلسلة النور الإلهي نقطة التحول المركزية، أو ما يمكن تسميته بهندسة المرحلة الجديدة فهو:
• ختمٌ للمرحلة التأسيسية حيث اكتملت معالم التشيع واستقرت قواعده الكبرى بجهود الصادق والكاظم والرضا.
• فتحٌ لمرحلة "الإمامة الشابة" التي مهدت لاحقاً لغيبة الإمام الحجة (عج)، فكان الجواد هو النموذج الأول الذي روض العقل الجمعي للأمة على تقبل القائد الغضّ الذي يمتلك شموخ الأنبياء ، وكانت ولادته إعلاناً ببدء سلسلة الأئمة الذين واجهوا أعتى التحديات الفكرية والسياسية في ريعان شبابهم، مؤكدين أن شجرة الإمامة دائمة الخضرة، لا يذبل ورقها ولا ينقطع ثمرها.
رابعاً: صناعة الأمل في زمن التضييق
إذا كان أمير المؤمنين قد قال: "فِي تَقَلبِ الْأَحوالِ عُلِمَ جَوَاهِرُ الرجَالِ"، فإن الجواد قد كشف عن جوهر الإمامة في أحلك الظروف السياسية، لقد استطاع وهو في قلب بغداد أن يحول الإقامة الجبرية إلى منارة علمية، ويثبت أن نور الإمامة لا يُحجب بجدران القصور، بل ينفذ إلى القلوب العطشى عبر وكلاء بذرهم في أصقاع الأرض، ليكونوا جسوراً لهذا "الفتح الإلهي" في زمن التمحيص الأكبر.
خامساً: فلسفة الجود: مفيض البركة من أصل النبع
إن تسميته بالجواد ليست مجرد صفة للكرم المادي، بل هي تجل لقول الصادق عليه السلام: "من فروعنا كل بر " ، إن جود الإمام هو "جودٌ بالوجود"، لقد جاد بعمره القصير ليشتري للأمة بقاءً طويلاً، وجاد بعلمه ليفكك أعقد الشبهات التي حاولت النيل من هيبة مقام النيابة الإلهية، فكان بحقٍ باب المراد الذي يفيض على السائلين بغير انقطاع و النور الذي لا يبدده ليل ، ففي زمننا الذي تتقاذف فيه الشبهات عقول الشباب، يبرز الجواد كنموذج للمثقف الرسالي الذي يمتلك الأجوبة الحاضرة والوعي النافذ، داعياً جيل اليوم إلى عدم الاستكانة لصغر سن أو قلة تجربة، بل الاستناد إلى سلاح العلم واليقين، ليكونوا هم "الفتح" في مجتمعاتهم كما كان إمامهم ، وحين نتدبر قول الإمام الرضا (عليه السلام): "هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه"، ندرك أن البركة هنا كانت إنقاذاً لخط الإمامة من التشكيك، وتثبيتاً للقواعد الشعبية في لحظة الحيرة الكبرى، ولقد تجلت هذه البركة في كسر القوالب المادية وإثبات أن الإمامة اصطفاء لدني لا يخضع لمعايير السن، وفي نسف رواسب الطبقية والتعصب العرقي من خلال تكريم "الأمومة" بمختلف ألوانها، لترسيخ قيمة التقوى كمعيار وحيد للنقاء، كما برزت في تلك المناظرات الكبرى التي أثبتت علو كعب العلم العلوي أمام أعقد المدارس الفلسفية، وصولاً إلى التمهيد التاريخي لغيبة الإمام الحجة (عج) عبر ترويض العقل الجمعي على طاعة الإمام الشاب الغض ،وإن عبقرية التوقيت في ميلاد الجواد لم تكن مجرد إضافة عددية، بل كانت الجواب الإلهي المسطور في كتاب القدر ،ليظل باباً للمراد، وقبلةً للرشاد، وبرهاناً حياً على أن "الحق" لا يحتاج إلى زمن ليشتد عوده، بل يحتاج إلى "إرادة الله" التي تجلت في أبهى صورها في جواد الأئمة (عليه السلام).








اضافةتعليق
التعليقات