مررنا جميعًا بحدائق آل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واستنشقنا عبير أزهار روائعهم، وتعلّقت أنفسنا بحكاياتهم كما تتعلّق الفراشات بالضوء. وفي رحلتنا هذه، كثيرًا ما نتعثّر بحديثٍ هنا أو قصةٍ هناك، فتمدّ لنا يد العون وتنقذنا من اليأس. ومن بين تلك القصص يبرز ذلك المشهد الذي يقطر حكمةً وصبرًا...
حيث يُذكر أنه كان هناك رجل من أعداء الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) يسكن في جواره. كلما رأى الإمام شتمه وآذاه، واستمر هذا الأمر شهورًا طوالاً، والناس يتعجّبون من صبر الإمام وحلمه، حتى إنّ حاشية الإمام قالوا له: "دعنا نقتله"، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي.
وفي يوم من الأيام، ركب الإمام إليه فوجدَه في مزرعته، فجالسه وألان له الحديث، وسأله: "كم غرمتَ في زرعك هذا؟"
أجاب الرجل: "مائة دينار".
فقال له الإمام: "وكم ترجو أن تصيب؟"
قال: "مائتا دينار".
فما كان من الإمام إلا أن أخرج له صرّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: "هذا زرعك على حاله، يرزقك الله فيه ما ترجو".
لم تكن تلك القطع من الذهب مجرّد عطاءٍ مادي، بل كانت دواءً لقلبٍ مريضٍ بالحقد. ومنها انقلب الرجل من عدوٍّ لدود إلى خادمٍ مخلص، وقال معتذرًا: "الله أعلم حيث يجعل رسالاته".
في الحقيقة، إن ما حدث ليس مجرد حِلْمٍ عادي، بل هو محبة تذيب الجبال من جليد، وبحر يستقبل الأوساخ ولا يردّ إلا اللآلئ؛ كيف لا وهو من بيتٍ جعل الله ألسنتهم وأفعالهم رسائلَ لا انقطاع لها؟
في دوّامة حياتنا اليومية، كم منّا يتحوّل إلى قنبلة موقوتة لأتفه الأسباب، وكم من حدثٍ تافهٍ ألهبته نار الغضب فتحوّل إلى عمرٍ من الندم لا يعود، بزلة لسان أو حركة يد تركت أثرًا غائرًا في قلب المتلقّي. فإن لم يكن كلّنا، فأغلبنا قد مرّ بهذه اللحظات. ومن كظم غيظه فيها فقد عرف ركنه الوثيق، واستمسك بحبل الله المتين في قوله تعالى:
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
كظم الغيظ: ليست وصية بل رحلة
كثيرًا ما يغلبنا التساؤل: هذا حديث عن أنبياء وأوصياء، قلوبهم مفعمة بنورٍ لا ندركه، ونفوسهم سمت إلى مقامٍ لا نطيقه. فكيف لنا، ونحن غارقون في هموم الدنيا صغيرِها وكبيرِها، أن نقتفي أثرهم؟
في الحقيقة، إن الجواب يكمن في تلك النظرة التي غيّرت قلب الرجل من عداوةٍ إلى خدمة. إنها نظرة التعاطف التي تسبق العفو. فحين سأل الإمام الكاظم (عليه السلام) ذلك الرجل عن غرمه وربحه، لم يكن يسأل عن الزرع فقط، بل كان يفتح نافذة على هموم ذلك الرجل وأحلامه. رآه إنسانًا له طموحات ومخاوف، لا مجرد رقم في سجل الأعداء.
وهنا بيّن لنا الإمام أنّ العظمة الحقيقية ليست في القوة التي تسحق الآخرين، بل في الرحمة التي ترفعهم إليك. فتخيّلوا معي: ذلك الرجل الذي ملأ أيامه شتمًا وإيذاءً، يقف الآن خجلًا أمام سعة صدرٍ لم تكن من عالمه، أمام قلبٍ اتسع للخلق جميعًا كما تتسع السماء للنجوم. فلم يمنحه الإمام المال فحسب، بل منحه في الحقيقة شيئًا أعظم: درسًا في الإنسانية، وفرصة للخروج من سجن كراهيته.
لقد حوّل عدوّه إلى خادمٍ مخلص، ليس بالسلطان بل بالحكمة والخلق العظيم. وهذه هي المرآة التي نرى فيها أعظم صورنا الممكنة. ففي عالمنا الذي تتحوّل فيه النزاعات التافهة إلى حروب، والكلمة الجارحة إلى قطيعة، نجد أنفسنا أحوج ما نكون إلى هذه اللمسة الكاظمية التي تخرجنا من دوّامة "العين بالعين" إلى آفاق "والعافين عن الناس"، وتذكّرنا أن يدًا امتدّت بالعطاء أقوى من قبضةٍ تكفهرّ بالانتقام.
إنها توقظ فينا ذلك النبل الكامن. فكم من علاقة جميلة مزّقناها لأننا فضّلنا الصراخ على الاستماع، وكم من فرصةٍ للصلح أضعناها لأن كبرياءنا رأت في الاعتذار هزيمة، وكم مرة أصبحنا – دون أن ندري – سجناء غضبنا العاجز!
فذلك الإمام الذي ردّ بالخير بدل الشر، وبالعطاء بدل الانتقام، لم يخسر شيئًا من مكانته، بل ارتفع إلى أعلى المراتب، وبرهن لنا أن الكظم ليس ضعفًا، والعفو ليس انكسارًا، بل هو قوة الروح التي تسبح في فضاءات أرقى من أن تصلها أدران الصغائر.
فهل نعتبر؟ كيف نبدأ رحلتنا؟ ونتوقّف مرةً مع أنفسنا كتلامذة في مدرسة آل البيت (عليهم السلام)، نتعلم أن نقيس قوتنا ليس بقدرتنا على الإيذاء، بل بقدرتنا على الصفح والإحسان؟ فنحن أبناء دين جعل العفو أقرب للتقوى، والإحسان تاجًا للمؤمن.
ألا فلنكن من الذين إذا غضبوا غفروا، وإذا قدروا عفوا. وتصبح أيامنا جوابًا لسؤال: ماذا لو جعلنا هذه البوصلة لرحلتنا؟
ببساطة، سيكون الاتجاه:
· نرى بعينين: قبل أن ينفجر الغضب، نحاول أن نرى الموقف بعين الطرف الآخر؛ ما الذي يدفعه؟ أي خوف يختبئ وراء غضبه؟ وأي جرح يحمله؟ وهذا ما سيجعلنا أقل غضبًا وألطف أسلوبًا.
· نتذوق طعم الجائزة: ليست الجائزة أن يخضع لك الآخرون، بل أن تتحرر أنت من سجن الغضب. الجائزة هي ذلك السلام الداخلي الذي لا يقدَّر بثمن، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة بخاتمتها: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. فأنت في رحلتك هذه تسعى لحبّ الله.
فليست الوصية أن تكون "ملاكًا" لا يغضب، بل أن تكون "إنسانًا" رحيمًا، يغضب أحيانًا لكنه يمسك بزمام نفسه، لا بزمام الآخرين. لذلك، ابدأ برحلة اليوم الواحد؛ فموقف واحد تعفو فيه عن زلة، أو تتحكم فيه بانفعال، ستجد أن قلبك بدأ يتسع. وسترى بنفسك كيف أن الحلم يصنع من العداوة مودّة، ويحوّل الحجارة إلى حدائق غنّاء.








اضافةتعليق
التعليقات