كلّنا زارتنا كلمات… لم تكن مجرد حروف تُلفظ، بل كانت كالسِّكين أو أشدّ وقعاً.
كل جملة كانت حافّة جارحة، وما زالت تزور ذاكرتي كلماتُ مدرّستي كالمطر المسموم، تُخبرني أنني لن أنجح مهما حاولت. وبمرور الوقت أصبحت كلماتها نبوءة تحققت، وكان العام الدراسي الذي كررته دليلاً مادياً على فشلي، فشلٌ زرعته في نفسي قبل أن تزرعه كلماتها في رأسي.
وفي المقابل، كم من معلّم كانت كلماته شمعة تُضيء دربي، أو يداً حانية ترفعني حين أسقط. وحتماً كلٌّ منّا يحمل في قلبه جروحاً أو أجنحةً من أيام الدراسة. وهذا الاستطلاع ليس عن التعليم فقط، بل عن الأثر الإنساني الذي يتركه المعلم في نفوس طلابه؛ ذلك الأثر الذي قد يبقى محفوراً لأعوام، إمّا كندبة مؤلمة أو كوسام شرف.
ولو عدتَ بذاكرتك إلى أيام المدرسة، فلا بد أن تجد كلمة قالها لك معلمك، ولا يزال صداها يتردد في أذنك إلى اليوم.
وحول هذا الموضوع، طرحنا السؤال التالي:
“ما هو الأثر الذي تركه فيك معلمك؟ وما اللحظة التي لم تستطع نسيانها؟”
شيماء منقذ / مدرسة لغة عربية قالت:
إن للمعلم رسالة لا تقف عند حرفٍ يُلقَّن، أو معلومة تُشرَح، بل هي بصمة روحٍ في أرواحٍ، تزرع إما قنوطاً أو أملاً.
لا أنسى، وكأن الأمر كان بالأمس، حين استعنت بمدرّستي طالبةً توجيهها، فكان جوابها صقيعاً جارحاً سلبني الثقة عاماً كاملاً، وجعل المادة جبلاً لا يُرتقى. لا تزال شرارة كلماتها الجارحةُ وقفاً في حنجرتي، تذكيراً قاسياً بأن الكلمة قد تكون سجناً.
لكن القدر — وكعادة الحياة — منحني نقيضها. ففي لحظة شكّي وترددي، وقبل أن أتخلى عن مهنة التدريس إلى الأبد، جاءني صوتٌ نقيّ من أستاذٍ لعلم النفس، كان بركة عليّ، إذ قال لي كلماتٍ ما زلت أحفظها:
“أنتِ مدرسةٌ متميزة… وتستحقين هذا المكان.”
كانت كلماته ماءً في أرض يابسة؛ أروت ظمأ الثقة في نفسي. ومن يومها آمنتُ بأن المعلّم الحقيقي ليس من يلقّنك الإجابة، بل من يمنحك القوة لتجدها بنفسك.
حنان حازم / كاتبة قالت:
على أيامنا كانت المدرسة بيتنا الثاني الكبير، نُمضي فيه نصف يومنا؛ التزامٌ ونظام وتربية وتعليم. كانت المديرة شخصية قاسية جداً، ومعظم المعلّمات حادّات الطبع، يتعاملن مع الطالبة كجندي في حرب، ولا مانع من الضرب أو العقاب المُخجل.
أتذكر أن مُدرّسة مطبقة لمادة الحاسوب زارتنا في الصف الثاني المتوسط.
كانت جميلة وأنيقة بشكل لافت، أحببناها كثيراً، وحتى الطالبات الكسولات أصبحن يُصغين باهتمام وتحسّن مستواهن بسبب أسلوبها الجميل.
وعندما انتهت مدتها في مدرستنا، ودّعتنا وهي تبتسم بحزن، بينما كنا نذرف الدموع. وعندما همّت بالخروج، عادت بخطوات هادئة نحوي وقالت:
“حبيبتي الطالبة المجتهدة حنان… أعطيني دفترچ.”
ناولتها دفتر الحاسوب الذي ما زلت أحتفظ به إلى اليوم. قلبت أوراقه التي وضعت عليها توقيعها وكلمات الثناء، ثم وصلت إلى ورقة فارغة وكتبت فيها:
“عزيزتي حنان… أتمنى لكِ التوفيق في حياتك العلمية والعملية. أنتِ تستحقين كل شيء جميل. تحياتي وحبي / ست سحر.”
خرجتُ من “الرحلة” وركضت لأحتضنها وأنا أبكي، فانحنت وقبّلتني على خدي برفق، وربّتت على كتفي قائلة:
“كوني دائماً حنان التي أعرفها… ولا تتهاوني في اجتهادك.”
وإلى الآن ما زلت أحتفظ بذلك الدفتر، رغم اصفرار أوراقه واهترائها… أمّا الكلمات التي يحملها، فبقيت خالدة في الورقة وفي قلبي.
بنين كاظم الشمري / بكالوريوس اقتصاد قالت:
في طيات القلب حنين لذكريات رسّختها كلماتٌ جاءت من أناسٍ لا يُنسى فضلهم.
تراودني الآن جملة قالها لي أستاذي الجامعي — رغم حزمه — حيث قال أمام طلاب الدراسات العليا:
“طلاب الدراسات العليا بكفّة… وهذه الطالبة البكالوريوس بكفّة أخرى.”
لن أنسى تلك الجملة أبداً.
أصبحتُ اليوم من الأوائل في اختصاص لم أكن أرغبه، لكن كلمته غيّرتني حتى تبخرت كل الصعوبات. وأختتم بقوله ﷺ:
“الكلمة الطيبة صدقة.”
وما لها من أثر معنوي ونفسي، وعكسها الأثر السلبي المميت للكلمة الخبيثة.
نرجس العبادي / كاتبة قالت:
كان للمعلم في حياتي أثر الفراشة…
أذكر حدثاً في الصف الخامس الابتدائي حين احتفت معلمة اللغة العربية بجملة كتبتُها بطريقة تكسر المألوف. قالت للجميع:
“فكّروا مثلما تُفكّر نرجس.”
ومنذ تلك اللحظة أصبحتُ أهوى الاختلاف… صنيعة كلمة الأمس.
إيمان حازم قالت بحزن:
تعود بي الذاكرة إلى الوقت الذي كانت أناملي تحوّل الورق الأبيض إلى عوالم ملوّنة.
ذكرى امتحان الجغرافيا تزورني كلما تألمت. رسمتُ الخريطة بإتقان يثير الدهشة، ولكن بدل أن تتحول الدهشة إلى إعجاب، تحولت إلى اتهام جارح؛ إذ لم ترَ معلمتي فيَّ الموهبة، بل شكّكت في نزاهتي ونشرت عني كلمة “غشّاشة” كوصمة عار.
تلك الكلمة القاسية قطعت خيط براءتي وأطفأت شغفي. لم يكن مجرد امتحان فشلت فيه… كانت لحظة اقتلاع ثقة. قررت حينها ترك مقاعد الدراسة، لأن المدرسة التي من المفترض أن تبني… هدمت عالمي الصغير.
والآن، كلما تذكرتُ تلك الأيام، لا أتذكر زميلاتي ولا كتبي… بل أتذكر جرحاً لم يندمل.
تذكيراً قاسياً بأن كلمة واحدة قد تُغيّر مصير إنسان.
فلا سامحها الله أينما كانت.
خاتمة
وبينما أطوي آخر سطور هذا الاستطلاع، يعلّق صدى كلماتهن نفسه في الأفق؛ بين سجون من حروف، أو أجنحة من أمل.
كل واحدة منهن حملت قلبها على كفها لتخبرنا أن المعلّم ليس ناقلاً للمعلومة فقط، بل هو نحات النفوس؛ قد يخطئ فينحت جرحاً لا يندمل، أو يصيب فيرسم مساراً مضيئاً لا يُنسى.
وهذه الشهادات ليست لمجرد القراءة، بل رسالة نرفعها باحترام إلى كل معلم يمسك بين يديه بوصلة مستقبل طلابه:
كن رحمةً حين يشتد الألم، وسنداً حين تتكاثر العثرات، وصوتاً ينهض بالطالب حين تصمت الأصوات.
فالأثر لا يُمحى…
والخيط الذي تقطعه لا يُوصل…
والكلمة أمانة…
والقلب وديعة…
والمستقبل مسؤولية.








اضافةتعليق
التعليقات