سكن الصمت، ولم يعد هناك صوتُ حفيفِ ثوبِها المقدّسِ في أروقة الدار. جفَّ البابُ الذي كان يعلوه نورُ وجهِها، وصار البيتُ بيتًا بعد أن كان قطعةً من الجنة.
ذبلت الأزهار، وانتظرت الجدرانُ بلهفةٍ عودةَ خطواتِها الخفيفة، تلك التي كانت توزّع الرحمةَ في كلِّ ركنٍ.
يومَ ارتجّت له أركانُ الرسالة، وانحنت له جباهُ النبوّة، وسكنت فيه أعظمُ روحٍ عرفتها البشرية، لم تكن مجردَ نهايةِ حياة، بل كانت القطيعةَ بين الأرض والسماء، بين النور والضياء، بين القلوب وموضعِ أسرارِ الرب.
إنها ليست روايةَ تاريخٍ نقرؤها، بل هي جرحٌ نحمله في أعماقِ كونٍ خسر جمالَه، وأمةٌ فقدت ضميرَها. فكيف نكتب عمَّن فارقت، والدمعةُ لا تزال حارقة، والقلبُ لا يزال ينزف؟
فماذا تبقّى للأرض حين تفقد سراجَها؟ هو زلزالٌ هزَّ كيانَ الوجود، فكيف تستقيم الدنيا وفاطمُ لم تعد فيها؟
هي ذلك القبسُ الذي أضاء الدرب، فلما انطفأت، تعلّمت البشريةُ معنى الظلمةِ الحقيقية.
واليوم، ونحن نتحدّث عن رحيلِ جسدِها الطاهر، ندرك أنه بعد ذلك اليوم اغتيلت الطمأنينة، وخرج معها من قلوبِ العالم شيءٌ لا يعود.
تلك اللحظة لم تكن مجردَ يومٍ في التاريخ، بل كانت اللحظةَ التي فهمنا فيها أن بعضَ النفوسِ هي ضيوفٌ عابرةٌ على هذه الأرض، تلمع وتغيب كالبرق، لتذكّرنا أن الوطنَ الحقيقيَّ هو هناك، حيث ذبلت زهرةُ الرسول وغاب عبيرُها.
فبقي حيدرةُ، ذلك الأسدُ المهاب، عاجزًا أمام هذه الفاجعة، يلملم أشلاءَ روحِه المبعثرة حول ضريحِها. لقد كانت فاطمُ هي الروحَ التي تتنفس بها العترةُ الطاهرة، والسرَّ الذي جعل البيتَ بيتًا، والدنيا جنّةً مؤقتة.
في رحاب حديثٍ يهزُّ الأنفس: "مفروضةُ الطاعة"
وفي رحابِ منبعِ الحكمة، يأخذنا الإمامُ الباقر (عليه السلام) بيدِ القلب نحو أفقٍ لا يدخله إلا الخاشعون، حيث يقول في حديثٍ يزيح الستارَ عن حقيقةٍ إلهية:
"إن فاطمة (عليها السلام) مفروضةُ الطاعةِ على جميعِ من خلق الله من الجنِّ والإنسِ والطيرِ والوحشِ والأنبياءِ والملائكةِ".(١)
هذه الكلماتُ ليست مدحًا عابرًا، بل هي تشريعٌ إلهيٌّ وحكمٌ كونيٌّ. فإذا كانت الطيرُ في السماء والوحشُ في الفلاة تسبّح بحمد ربّها وتخضع لهذا النورِ الفاطمي، فإن ذلك يعني أن قدسيتَها جزءٌ من نظامِ هذا الكون الذي أبدعه الله تعالى.
ثم ينتقل الإمام (عليه السلام) إلى طاعةِ الأنبياء والملائكة، فيكشف لنا عن مقامِ اصطفاءٍ محمديٍّ خالص؛ فالأنبياءُ هم صفوةُ الخلق، ولكن فاطمةَ هي بضعةٌ من نبيٍّ انقطع الوحيُ بعده.
وأمّا طاعةُ الملائكة، تلك الكواكبُ المنيرةُ في عالمِ العبودية، فهي شهادةٌ بأن مقامَها (عليها السلام) يسمو حتى على مقاماتِ الملائكةِ المقرّبين.
وفرضُ الطاعةِ هذا دليلٌ على العصمةِ المطلقة، فاللهُ تعالى لا يأمر بطاعةِ من يجوز عليه الخطأ. وهي (عليها السلام) الحُجّةُ البالغةُ، والنَّبضُ الذي يتردّد في وريدِ الخليقة.
حبُّ فاطمة: ليس شعورًا بل التزامٌ وطاعة
يُخرجنا هذا الحديثُ من حدِّ الحبِّ العاطفيِّ المجرّد، إلى رحلةِ الوجودِ كلّه نحوها.
فمحبةُ السيّدةِ الزهراء (عليها السلام) ليست مجردَ تعلّقٍ قلبيٍّ، بل هي اتّباعٌ واقتداءٌ وطاعة.
فمن أحبّها حقًّا، فليجعلْها قدوتَه في الصبر على المآسي، وفي الجهاد ضدّ الظلم، وفي العلمِ الذي يهدي إلى الحق، وفي العبادةِ التي تصل العبدَ بربّه.
فهي التجسيدُ الحيُّ لكلِّ قيمةٍ جاء بها الإسلام، والبابُ الذي لا يُوصِل إلى الله إلا من خلالِه.
فطوبى لمن عرف قدرَ سيّدةِ نساءِ العالمين، فخضع لطاعتِها، واقتفى أثرَها، فبحبِّ فاطمةَ وأبيها وبعلِها وبنيها (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين) تُغفر الذنوب، وتُرفع المقامات، ويَنزل الغيث، ويُستجاب الدعاء.
فسلامٌ عليكِ يا بنتَ رسولِ الله،
سلامٌ عليكِ يا من كنتِ النورَ الذي أضاء الدرب،
والبستانَ الذي أينع فضلًا وحكمة،
والقلبَ الذي خفق حبًّا وإيمانًا.
سلامٌ عليكِ يا سرَّ الوجود،
فقد خسرت الأرضُ سراجَها،
وبقي القلبُ ينتظر لمحةً من ذلك النورِ في يومِ اللقاء.








اضافةتعليق
التعليقات