إحدى خصال الإمام علي (سلام الله عليه) خاصة في فترة خلافته هي تعاطفه مع الناس، ويتجلّى تعاطفه مع أفقر الناس من خلال عمله وقد قال: «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه».
فهو سلام الله عليه لم يضع حجراً على حجر، ولم يسكن قصراً فارهاً ولم يمتطِ فرساً مطهّماً، وتحمّل كلّ المصاعب هذه لئلا يكون هناك فرد في أقصى نقاط دولته يتبيّغ بفقره لا يجد حتى وجبة غذاء واحدة تسدّ رمقه، وهو القائل: «لعلّ هناك بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع».
لذا، فإنّه لمجرد أن يحتمل سلام الله عليه وجود أفراد في المناطق النائية من رقعة حكومته جوعى، لم يكن ينام ليلته ممتلئ البطن، وقد حرم نفسه حتى من متوسط الطعام واللباس والمسكن ولوازم الحياة العادية.
أراد الإمام علي (سلام الله عليه) بنهجه هذا تحقيق هدفين:
الأول: أن يُبعد عنه أي شبهة كحاكم إسلامي، ويسلب منتقديه أي حجّة تدينه، هؤلاء المنتقدين الذين أنكروا عليه حتى مناقبه.
الهدف الثاني: هو تذكير الحكّام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظلّ حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجدّ من أجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم.
من هذا المنطلق، فإن مجرّد احتمال وجود أناس يتضوّرون جوعاً في أبعد نقاط الحكومة الإسلامية يعتبر في ميزان الإمام علي (سلام الله عليه) مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو سلام الله عليه يؤكّد على الحكّام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش.
وهنا تتجلى عظمة الغدير أكثر فأكثر، وتسطع أنوار القيم والتعاليم السامية التي يحملها يوماً بعد آخر، تلك القيم التي تؤمّن التوازن السليم بين المتطلبات الروحية والعقلية والمادية والمعنوية للبشر، لتحقّق السعادة للجميع أفراداً ومجتمعات، حكاماً ومحكومين.
الغدير والمشاعر الإنسانية
بركة أخرى من بركات الغدير هي الوقوف على الجانب العاطفي من شخصية الإمام علي (سلام الله عليه) والأئمة (سلام الله عليهم) الذين نصّبهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لخلافته من بعده، ففيهم تتجلّى الرحمة الإلهية على الخلق وهم التجسيد الحيّ لأسمائه الحسنى، حيث ورد في بعض الروايات أنّ الآية الكريمة: «وَللهِ الأسْماء الحُسْنى فادْعوهُ بِها» نزلت في شأنهم.
فمن شفقة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) على الخلق أنه أعطى طعامه للأسير واليتيم والمسكين وبات جائعاً هو وزوجته وولداه الحسن والحسين (سلام الله عليهم) أجمعين ثلاثة أيام متواليات، ولم يكن طعامهم سوى أقراص خبز. وعلى فراش الشهادة أوصى (سلام الله عليه) بإعطاء مقدار من الحليب الذي كان يتناوله كدواء إلى قاتله ابن ملجم، وأن لا يُبخس حقّه في المأكل والمشرب والمكان والملبس المناسب. بل كان يطالبهم أن يعفوا عن ابن ملجم حيث قال لهم: «إن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة فاعفوا، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم».
يروي المؤرخون أنّه بعد استشهاد الإمام علي (سلام الله عليه) كانت له درع مرهونة عند يهودي، بينما بلغت أموال عثمان بن عفان بعد مقتله 150 ألف دينار ومليون درهم، وكانت لعثمان أيضاً أملاك في وادي القرى وحنين ونواحي أخرى تقدّر بـ200 ألف دينار، هذا بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الإبل والفرس.
فلتقارن هذه الثروة العظيمة التي خلّفها عثمان مع الدَيْن الذي كان بذمّة الإمام علي (سلام الله عليه) عند استشهاده ليتبيّن لنا البون الشاسع بين المنهجين، ونكتشف عظمة علي (سلام الله عليه) والغدير أكثر فأكثر.
وهنا، ينجلي لنا جانب من السرّ الذي تنطوي عليه عظمة الغدير ومقولة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) باعتباره أهمّ الأعياد.
مسؤوليتنا تجاه الغدير
لكي نعرف طبيعة وحجم المسؤولية التي يلقيها الغدير على عاتقنا، يجب أولاً أن نسأل أنفسنا، إلى أي مدى تعرّف العالم المعاصر على الغدير وسبر أسراره العميقة؟ وإذا كان يجهل الغدير فمن الذي يتحمّل مسؤولية هذا الجهل؟ وما طبيعة المسؤولية التي نضطلع بها في الغدير أمام الله عزّ وجلّ وتجاه المجتمعات الإسلامية؟
في الحقيقة، لا يحمل الجيل الحالي عموماً تصوراً واضحاً وصحيحاً عن الغدير، وتقع مسؤولية ذلك على عاتقنا نحن في الدرجة الأولى، فلو أدّينا واجبنا في شرح فكرة الغدير للناس لكان الوضع أفضل ممّا نحن عليه الآن.
كان علينا أن نوضّح للعالم بأنّ الغدير يعني تحقيق الرفاهية وتوسيع نطاقها، وبلوغ التقدم والرقي والوفور وعمران المجتمعات الإنسانية، الغدير يعني المساواة بين الممسكين بمقاليد الاقتصاد والمال وبين باقي أفراد المجتمع، والقضاء على الطفيلية والعصابات. وحسب ثقافة الغدير، فإنّ المسؤولين عن الشؤون المالية هم المؤتمنون فحسب ولا شيء أكثر من ذلك. الخلاصة، إنّ الغدير يعني ميثاق ولاة الأمر مع الله عزّ وجلّ بأن يجعلوا مستوى عيشهم بمستوى أقلّ الأفراد في المجتمع، وأن يحاكوهم في المأكل والمسكن والملبس والرفاهية ... إلخ.
في الختام، نؤكّد المسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتقنا إزاء الغدير وأمير المؤمنين (سلام الله عليه)، وضرورة الالتزام بهذه المسؤولية فيما يتعلّق بالغدير. ومن أهمّ هذه المسؤوليات في الوقت الراهن نشر مفاهيم الغدير، ودعوة عموم الناس لينهلوا من هذه المائدة السماوية؛ وفي غير الحالة هذه، لا يوجد أدنى أمل في كفّ الحكّام المستبدّين أيديهم عن المستضعفين، وإنقاذ الإنسانية يوماً ما من هذا الوضع السيّئ والخطير، والوصول إلى ساحل الأمن والرفاهية والعدل والحرية.
إذن، عندما يكون الحديث عن الغدير، فإنه في الواقع حديثٌ عن المعاني التي ذكرناها آنفاً، مجسّدة الروح العظيمة لأمير المؤمنين (سلام الله عليه).
بقي أن نتساءل: يا ترى هل سينجب التاريخ حاكماً عادلاً يقتفي أثر الإمام علي (سلام الله عليه) الذي كان يتعاطف مع أضعف مواطني حكومته؟ هنا يتوضّح جلياً مغزى قول الإمام الرضا (سلام الله عليه): «لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كلّ يوم عشر مرّات».
اضافةتعليق
التعليقات