استوى الفُلك على الجودي، لتتصدى كل المخلوقات بعدها إلى الاختبار الأعظم، وهو أخذ المصداق بعد التصديق ليتسنى لسبيل ذو الشوكةِ أن يرسم نفسه من خارطة السماء إلى خارطة الأرض، وليكون وسام المؤمنين.. يوم يحملون أوسمتهم ليقدموها لرجال الأعراف صكوكاً.
إن رحلة الأرض هي رحلة اكتمال النفس قبل الجسد، هذا ما توصل إليه العقل البشري بمختلف الأديان والمذاهب الذي انتمى لها على مدار القرون السالفة، ليعي أن وجود الأبعاد المعنوية في ذات الإنسان في ظل تجربته المادية البحتة؛ ما هي إلا دلالة الارتباط اللاإرادي للبشر بالسماء وحتمية العودة لها؛ بشرط أن يستوفي كل شروطها ويستدل على مساراتها بالخرائط الأوثق.
فمن عظيم قدرة الله عز وجل أن دلّ الخَلق بالخلق وجعل لكل أحياءه مناراتٍ من أجناسهم وذواتهم ليتسنى لهم إبصار محطة النهاية مع كل بداية، فقد شمل هذا النظام الكوني كل مخلوقات الأرض بكل توجهاتها وأفعالها علّهم يأنسون بجذوة الحقيقة فيتمسكوا بها.
فمنذ أن قتل قابيل أخاه وجعلهُ قرباناً لجشعه انكشف الغمام عن مبدأ الأسوة الحسنة ليدفن الإنسان من خلالها عثرات طريقه نحو خالقه وليتقن فنّ الوصول.
ولكن هل يمكن للباري أن يهبَ أسوةً مستحيلةَ التأسي؟ وهل يمكن أن تسمى بعد ذلك أسوة؟
لقد ختم الله سبحانه وتعالى أديان السماء بدين شامل وهو دين نبينا محمد (ص) الذي تشكل بين أنامل العترة الطاهرة كدينٍ تجتمعُ به كل مقتضيات المسير إلى حيث الاكتمال الباطني والخارجي للبشر، فكان بمثابة منهجٍ مدوّن توشح على سلوكيات أربعة عشرة معصوم ليكونوا لهُ لسان صدقٍ في العالمين.
ولكن منذُ أن بزغت شمس العلمانية على وادي الإسلام، نبتَت معها فكرة صعوبة الإقتداء بالمعصومين بل وربما استحالة تطبيق أفعالهم وأقوالهم على حياة المجتمعات القديمة منها والحديثة، هذا ما أدى إلى إعلانهم عن فكرة قوقعة الدين بين ثنايا المساجد والأماكن الدينية ظنّاً منهم أن الحياة هي مساراتٍ تحتاج إلى فكرٍ معاصر ليضمن لها استمرارية التقدم.
لقد اختار الأئمة الأطهار (ع) والأنبياء من قبلهم، حياةً لا يجتمع فيها التضاد بل وظفّوا السلوك على أساس التوازن والتقوى بشرطها وشروطها، فلا يمكن إنكار الجانب الإلهي الذي اختص به الأوصياء ليحققوا شرط العصمة ولكنّه يشكل النسبة الأدنى من النسبة الأعلى وهي الإنسانية بمعناها الحقيقي.
اختلف تعريف الإنسانية باختلاف المدارك البشرية، فمنهم من يقول أنها السلوكيات الخارجية التي يوظفها الفرد لنيل صلاحه .. ومنهم من يذعن بأنها اللبُّ الصالح الذي يستوطن دواخل الإنسان وليس عليه إلا أن يجده ويسمح له بالظهور، ومن بين هذين التعريفين يتضح الوصف الأدق والأكثر شمولية وهو خُلق الأئمة (ع) الذي تساوت به الدواخل والخوارج والذي لخصه أمير المؤمنين (ع) بقوله: "ألا بالتقوى تقطع حُمَة الخطايا، وباليقين تدرك الغاية القصوى" .
فسلوك التقوى هو سلوك بشري بحت، صدح به الإنسان المعصوم بكل أفعاله ليكون خريطة لحياة الإنسان .. فحلمهم هو تحلّمنا، وصلاتهم هي مسعانا، وصبرهم هو جَلدُنا، وحكمتهم هي بصيرتنا.... فقط إن اخترنا أن نرى أفعالهم قيد العمل.
اضافةتعليق
التعليقات