عندما نقول (أم) فإننا نستحضر قيم الحنان والعطاء والإيثار والتضحية؛ فلايوجد كالأم من يعكس هذه المعاني بأجلى صورها، ومنذ اللحظة الأولى التي ترتبط فيها الأم بوليدها تبدأ رحلة الإيثار؛ والعطاء، ذلك العطاء المقترن بالتعب والجهد والعناء، وبالسعادة والرضا في الوقت نفسه .
فالأم تؤثر جنينها على نفسها وتمنحه عناصر تكوّنه ونموه؛ وعندما يكون هناك تزاحم بين حاجة الأم وحاجة الجنين فالأولوية تكون للجنين حتما، ومع كل نبضة من نبضات قلبها فإنها تمنح جنينها عصارة وجودها ليأتيه رزقه من غير عناء بكرة وعشيّا .
ولا تنقطع الوشيجة المقدسة بين الأم وطفلها مع انقطاع الحبل السري؛ بل تستمر إلى آخر نفس، وأخر لمحة عين لذا لا غرابة أن يهتم الشارع المقدس بالأم ويوصي بها بعناية، ويقدّمها على شريكها (الأب)، ويركُز على دورها .
{ وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنࣲ }؛ فالآية تتحدّث عن الوصية الإلهية بالوالدين ولكن اللطيف إنها لا تذكر شيئا عن الأب بل تنتقل مباشرة إلى دور الأم وما تعانيه من وهن وتعب خلال فترة الحمل والرضاع .
وبعد الحمل ومعاناته يأتي المخاض وما يكتنفه من ألم، ثم رحلة التربية حيث إن فترة الطفولة في الإنسان هي الأطول من بين جميع الكائنات .
صحيح إن دور الأب لا يمكن إنكاره ولكنه الجندي الذي يقف في الخطوط الخلفية للمواجهة، وتبقى الأم هي القائد الذي يرابط على الساتر الأمامي ولا يغادر موقعه مهما كانت الظروف والمخاطر !
إن معنى (الأم) في قواميس اللغة هو الجذر والأساس؛ فالأم هي الجذر الذي يشدّ الفروع ويمنحها القوة والثبات مهما امتدّت إلى الخارج وابتعدت، وهي الأساس الذي يُبنى عليه أهم بناء في المجتمع وهو الأسرة، ولولا الحنان والرأفة الذي تغدقه الأم على أفراد هذا الكيان الصغير، وما تأسس له من روابط المحبة والرأفة والتعاون والخير لما قامت للمجتمع الكبير قائمة !
إن إشاعة روح الحب والرحمة والإيثار والتضحية بين أفراد المجتمع عموما إنما هو انعكاس وتجلّ واضح لروح الأم !
ومع إن للأب دور مهم في الأسرة؛ فهو الذي يدير شؤونها، ويؤمن احتياجاتها المادية تحت عنوان { ٱلرِّجَالُ قَوَّ ٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَاۤءِ }، لكن أساس العائلة القائم على الروابط المتينة هو في عهدة الأم ؛ ومن رحم الأم يولد أبناء تربطهم روابط الحب والرحمة سواء ولدوا بفواصل زمنية قصيرة أو طويلة، هذه الرابطة الفطرية العظيمة التي تولّدت من رحم الأم، وأخذت عنوانها من هذا الجزء من جسدها يهتم بها الإسلام ويوليها عناية فائقة، ويعتبرها من الواجبات الدينية المقدّسة ويرتّب على إهمالها أو نسيانها آثارا وعقوبات كبيرة، وكما ورد في الرواية: ( إن الرحم متعلّقه يوم القيامة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني)، وفي قوله تعالى: { ٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ أُو۟لَـٰۤئكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ }، ومن دون شك إن أوضح مصاديق ما أمر الله به أن يوصل هو صلة الرحم، كذلك رتب الشارع على مراعاتها آثارا إيجابية عظيمة، كما ورد في الحديث النبوي: ( إن أعجل الخير ثوابا صلة الرحم).
هذه القاعدة المهمة والأصل العظيم الذي يربّي المجتمع البشري الصغير، ويهيء الأرضية لازدهار المجتمع الكبير إنما ينطلق من حضن الأم، وينتعش بأنفاسها، وينمو ويثمر بقدرتها اللامحدودة على العطاء دون مقابل .
فهل نعجب بعد ذلك من تأكيد الشارع المقدس على حرمة الأم ومراعاة حقوقها وتقديمها على الحقوق كلها ؟
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك).
بعد كل هذا فنحن أمة لا نحتاج إلى يوم خاص نحتفل فيه بالأم، ونراعي فيه حرمتها وأداء الواجب نحوها، ربما هي فرصة لطيفة لنجتمع حول هذا الكيان الأثير؛ فنحن منها، وإليها، نعيش بأنفاسها، وبألق وجودها تحلو الحياة، وتكتسب أرقى المعاني !.
اضافةتعليق
التعليقات