يحتفل باليوم الدولي للاعنف في الثاني من أكتوبر الذي شرع من سنة 2008، وهو يوم مولد الزعيم غاندي، فهو زعيم حركة استقلال الهند، ورائد فلسفة واستراتيجية اللاعنف ووفقاً لقرار الجمعية العامة الذي نص على إحياء تلك الذكرى، اليوم الدولي هو مناسبة "لنشر رسالة اللاعنف، بما في ذلك عن طريق التعليم وتوعية الجمهور".
ويؤكد القرار مجدداً "الأهمية العالمية لمبدأ اللاعنف" والرغبة" في تأمين ثقافة السلام والتسامح والتفاهم واللاعنف" إنّ اللاعنف هو أقوى قوة في متناول البشرية فهو أعتى من أعتى سلاح من أسلحة الدمار تم التوصل إليه من خلال إبداع الإنسان إنّ مبدأ اللاعنف المعروف أيضاً باسم "المقاومة اللاعنيفة" يرفض استخدام العنف الجسدي لتحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي وهذا الشكل من أشكال الكفاح الاجتماعي، الذي كثيراً ما يوصف بأنّه "سياسة الناس العاديين"، قد تبنته جماهير الناس في مختلف أنحاء العالم في حملات ترمي إلى تحقيق العدل الاجتماعي.
تعريف اللاعنف
يستخدم البروفيسور جين شارب، وهو باحث كبير بشأن المقاومة اللاعنيفة، التعريف التالي في منشوره الذي يحمل اسم "سياسة العمل اللاعنيف": "إنّ العمل اللاعنيف هو أسلوب يستطيع به الناس الذين يرفضون السلبية والخضوع، والذين يرون أنّ الكفاح ضروري، أن يخوضوا صراعهم بدون عنف والعمل اللاعنيف ليس محاولة لتجنب أو تجاهل الصراع بل هو استجابة لمشكلة كيفية العمل بفعالية في مجال السياسة، لاسيما كيفية استخدام القدرات بفعالية".
ومع أنّ اللاعنف يُستخدم في الغالب كمرادف لمذهب السلام، فقد تبنت حركات كثيرة تدعو إلى التغيير الاجتماعي ولا تركز على معارضة الحرب مصطلح اللاعنف منذ منتصف القرن العشرين ومن الركائز الأساسية لنظرية اللاعنف أنّ سلطة الحكام تعتمد على موافقة السكان، ومن ثم يسعى اللاعنف إلى تقويض هذه السلطة من خلال سحب موافقة وتعاون الشعب وثمة ثلاث فئات رئيسية للعمل.
عرف اللاعنف ايضا في الموسوعة السياسية من ضمن التعريفات التي ذكرت لمبدأ اللاعنف فيها بأنه: "سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية والروحية على التحكم بالذات وعن المعرفة الصارمة والعميقة للنفس".
وهناك تعريف آخر لـ"اللاعنف" وهو: "شكل من التحرك السياسي يتميز بغياب كل تصرف عنيف"، وهناك تعريف آخر لـ"اللاعنف" يمكن عدّه التعريف الأفضل من بين التعريفات الكثيرة التي قدمت لهذا المبدأ، وإن كان لم يسلم من المؤاخذات في كونه يفتقر إلى الشروط الدقيقة والعلمية للتعريف ولكنه يبقى من أفضل التعريفات لـ"اللاعنف".
فقد عرف اللاعنف بأنه وسيلة من وسائل العمل السياسي والاجتماعي يحاول أن يجعل قوة الضعيف وملجأه الأخير مرتكزاً على إثارة الضمير والأخلاق لدى الخصم، أو على الأقل لدى الجمهور الذي يحيط به ويرمي إلى ترجيح كفة الحق والعدالة.
الحياة بلاعنف
إن ظهور السلوك العنيف في غالبية المجتمعات الإنسانية في العالم يدفع البعض إلى التصور بأن العنف جزء موروث من الطبيعة البشرية، لكن آخرين ينظرون إلى الأمر بشكل مختلف، فهناك مثلاً من يقول بأن النهج العنفي في السلوك البشري هو ظاهرة حديثة نسبياً ظهرت قبل أقل من عشرة آلاف سنة على الأكثر، ولم تكن حاضرة في المجتمعات البشرية إلا بعد توطنها وبناءها للمساكن والتجمعات الحضرية.
ويقارن المؤرخ توينبي بين العنف والصيد، مشيراً إلى أن الصيد كان أحد أهم وأكثر أساليب الحياة ارتباطاً بالبشر، فهم صيادون واعتمدوا على الصيد طوال ما يزيد على 98% من تاريخهم، إلا أن الصيد تحول خلال القرون القليلة الماضية إلى هواية ضيقة لا يمارسها سوى عدد قليل جداً من البشر ولم يعد بأي شكل مصدراً يمكن الاعتماد عليه للغذاء البشري.
ورغم ارتباطه بالبشر طوال آلاف السنين تبين الآن أن الصيد لم يكن سوى مصدر مؤقت للغذاء البشري كذلك فإن العنف طريقة مؤقتة لمواجهة المشاكل وحلها ولم تعد صالحة، خصوصاً مع التطور الثقافي والعسكري الذي منع الدول الكبرى من التحارب فيما بينها بسبب ترسانتها النووية التي ستؤدي إلى فناء كل الأطراف في حال تم استعمالها.
مــزايا اللاعنف
1- يتميز اللاعنف عن غيره من أساليب الدفاع عن القضايا - سواء السياسية منها أم الاجتماعية - في أنه يلجأ إلى تحكيم العقل، الذي يميز الإنسان عن غيره، في حل القضايا التي يتبناها ويغلّب جانب العقل قدر الإمكان على غيره من الجوانب.
2-يختصر على الناس الخسائر البشرية والمادية التي يكلفها غيره من الأساليب.
3- يبتغي أفضل النتائج وبأقل الإمكانيات والجهود.
4- إن ميزة اللاعنف في نضاله ضد الظلم تكمن في أنه لا يصيب بالعذاب سوى الذي يستخدمه دون أن يتعدّى أثر ذلك الضرر إلى غيره، في حين يتعدى أثر الضرر الذي يتسبب به العنف إلى الأبرياء إن لم نقل أن حصتهم من الضرر تفوق تلك الحصة التي يتحملها مستخدمو أسلوب العنف ذاتهم.
اللاعنف وأصله في الإسلام ومصدره في القران
تكتسب أطروحة المرجع الشيرازي (قدس) ونظريته في (اللاعنف) أهمية متميزة وأهميتها تكمن في أنها تصدر عن مرجعية دينية, وتتحرك وفق هذا المنصب الديني، وهذا بحد ذاته يحمل أسباب قبوله في المجتمع ومن ثم يفترض وجوب الالتزام بما يصدر عنه وتنبئ هذه الأطروحة أيضاً عن رؤية اجتهادية تتأسس على مدارك شرعية ووجوه في الاستنباط تقوم على الكتاب والسنة وسيرة أهل البيت(ع).
يقول د.اسعد الإمارة "يستمد الإمام الشيرازي هذه النظرية في كل أبعادها من القرآن الكريم وما قال به رسول الله (ص) من أحاديث وما رواه أهل البيت في مختلف المواقف".
ويبدو أن الفكر الاجتهادي للإمام الشيرازي قد تماهى في هذه المسألة مع قناعته الفقهية حول (اللاعنف) إلى مستوى القول بأن (الأصل في الإسلام هو السلم واللاعنف)، وأصل هذا القول عند الإمام الشيرازي الراحل في بعض ما يبني عليه نظريته هو "إن الإسلام مشتق من السلم والسلام."
وأما أصوله الأخرى في الكتاب فهي تنتشر على مساحة واسعة من القرآن الكريم وبحضور قراءته في معنى الإسلام من السلم والسلام ما يزيد من إمكانية استشراف النص في رؤيته على هذا النحو وترسيخ قوة استدلاله في ما ذهب إليه من القول باللاعنف وما يلزمه من الرفق والمداراة والصبر وملكة التحمل وهي عنده ضبط النفس وترك الحدة ثم ما يترتب على تلك الأمور وهي تجليات اللاعنف عند الإمام الشيرازي في السلوك ومجمل صور الحياة.
وأما الآيات التي استند إليها الإمام الشيرازي (قدس) في استنباطاته حول اللاعنف فهي آيات العفو وآيات السلم، حيث يرى أن حديث العفو والأمر به الوارد في آيات القرآن ما هو "إلا ضرب من ضروب اللاعنف أو مصداق من مصاديقه البارزة".
وأظهر آياته في ذلك قوله تعالى:
-(أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (8/ سورة المائدة).
-(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (149/ سورة النساء).
-(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (22/ سورة النور).
-(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (159/ سورة البقرة).
-(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(13/ سورة المائدة).
-(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (109/ سورة البقرة).
-(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)(178/ سورة البقرة).
-(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (219/ سورة البقرة).
-(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (199/ سورة البقرة).
وهي الآيات التي يبني علها حكمه في اللاعنف وهي أيضاً من أبرز مصاديقه في العفو
وإذا كان العفو موقفاً يترتب الحكم فيه ويتوقف على دواعي ومسببات الحكم به إن وجدت، فإن السلم هو أصل الموقف في الإسلام وفلسفته في الحياة عند الإمام الشيرازي بناءً على تعريفه الإسلام بأنه مشتق من السلم والسلام وبهذا المعنى وانعكاساته يتناول الإمام الشيرازي مفردة السلم وآياته في القرآن الكريم باعتباره مظهراً آخر من مظاهر اللاعنف في الإسلام وأهم تجلياته النظرية والعملية عند الإمام الشيرازي.
يقول الإمام الشيرازي وعلى هذا الأثر فان آيات الذكر جاءت لتؤكد على مسالة السلم والسلام؛ فقد قال عزِ من قائل مخاطباً عباده المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (208/ سورة البقرة)، وقال مخاطباً الرسول الكريم (ص) وداعياً إياه الى الجنوح للسلم إذا جنح المشركون له (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (61/ سورة الأنفال)، وأمر تعالى باعتزال القتال إثر جنوح المشركين الى السلم فقال (...فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (90/ سورة النساء).
وأخيراً يختم الإمام الشيرازي في استدلاله القرآني على مسألة اللاعنف ويخلص الى ما يورثه اللاعنف والالتزام به من سلوك إسلامي وخلق رباني أجملته الآية الكريمة في قوله تعالى (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (34/ سورة فصلت).
ثم هناك آيات الصفح التي يفرد لها موضوعاً خاصاً من أجل توسعة قواعده الاستدلالية وبيان اهتمام القرآن بهذا الأمر المهم في حياة الإنسان والمسلم على وجه الخصو حيث يقول الإمام الشيرازي "إلى جاب كل ما ذكر من الآيات المؤكدة على نبذ العنف والبطش فإن هناك آيات أخرى صريحة تحث المسلمين على الصفح وغض النظر عن الإساءة".
ونتيجة مركزية اللاعنف في فكر الإمام الشيرازي ومحوريته في إدراك وفهم الإسلام، إذ يتأسس الإسلام عنده على اشتقاقه اللفظي في معنى السلم والسلام، فإن الإمام الشيرازي يتوسع بإضافة آيات كثيرة تنتهي عنده في ما يؤول إليه اللاعنف وترد في النهاية المطاف في هذا المعنى نفس الآيات التي "تدل على الغفران والغض عن السيئة والمحبة والإحسان وما شابه.
اضافةتعليق
التعليقات