كوكبٌ دُري من شجرة مباركة سطع نوره فكبل أرواح المؤمنين بحب لا ينطفئ تضاء به صدورهم وتنشأ على مكارمه أطفالهم دون الحاجة لشعلة نار أو زيت وإنما هو نور من السماء يهدى لكل محب استمسك بمصابيح العترة الطاهرة في ليله المعتم.
بخطوات التمام لمن تحمل في جوفها نور عظيم تمتد منه سلسلة الأنوار المحمدية، اتكئت بإزاء البيت الحرام وطرقت باب السماء بصوت مسموع (أي ربّ إني مؤمنة بك وبما جاء به من عندك الرسول وبكل نبي من أنبيائك وبكل كتاب أنزلته، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل وإنه بنى بيتك العتيق، فأسألك بحق هذا البيت ومن بناه وبهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلّمني ويؤنسني بحديثه وأنا موقنة أنه إحدى آياتك ودلائلك، لما يسّرت عليّ ولادتي).
ففتحت السماء أحضانها وأشرعت الأبواب مفارجها تنادي باستضافة أم لنور يسري عبر العصور فيكون لنا من أحكامه ومناقبه ما يهدي أمة كاملة، فانفتح البيت من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن الأبصار ثم عادت الفتحة والتزقت بإذن الله تعالى، فرام من حولها أن يفتح الباب لتصل إليها بعض نسائهم فلم ينفتح الباب، فعلموا أن ذلك أمر من أمر الله تعالى، وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام حتى ولدت نور الكون في الثالث عشر من شهر رجب ولم يسبق الإمام علي (عليه السلام) بالولادة في جوف الكعبة قبل الإسلام وبعده غيره.
وقد كرمنا الله أن ختم على قلوبنا بحب وليه في الأرض وشفاعته في السماء فكنا له نعم الشيعة التي تلهج باسمه وتتغنى بفضائله وخصاله ولكن الأهم من كل هذا كيف نسير على خطاه فنربح دنيانا برضى الله وآخرتنا بشفاعة وليه، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "من أحبنا فليعمل بعملنا، وليستعن بالورع، فإنه أَفضلُ ما يُستعانُ به في أمرِ الدنيا والآخرة".
لقد دخلت إلى هذا المحراب وكان قبلي آلاف الداخلين ووقفوا في رحابه خاشعين متأملين هذا المحراب الذي يزيدنا حُسناً كلما زدناه نظراً، ويزيدنا علماً كلما زدناه تبصراً وتدبيراً فهو نهج للبلاغة، كنوزه تفيض به مئات المصنفات، تهت في دهاليز علمه وأنا أنظر إلى نفسي كيف سأذكر مولاي دون أن أكون نسخة مكررة تستمعون إليها فتقولوا: هذه بضاعتنا ردت إلينا.
يعسوب المؤمنين صوت العدالة الإنسانية
ماهو من الآدمية إلا بمقياس ما يسمُون، إلا بمقياس الضمير والوجدان، هكذا قد طرح الكاتب جورج جرداق في كتابه «الإمام علي صوت العدالة الإنسانية» لهجة تنبيه ليقف الناس لحظة عنده فيستوعبوا ما طبع على هامة التاريخ، قائلا: (هلا أعرت دنياك أذناً وقلباً وعقلاً فتلقي إلى كيانك جميعا بخبر عبقري حملت منه في وجدانها قصة الضمير العملاق يعلو ويعلو حتى لتهون عليه الدنيا وتهون الحياة ويهون البنون والأقربون والمال والسلطان)، إمام جمع الأضداد جميعا في بحار متنوعة الأعماق كل عمق فيها صفة انسانية تعلو بذاتها منقذة كيان أمة كاملة بأوصاف الكمال كما رسمت قصيدة صفي الدين الحلي في بديعته العصماء في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام).
جمعت في صفاتك الأضَدادُ
فلهذا عزّت لك الأنَدادُ
زاهِدٌ حاكم حَليم شُجاعٌ
فاتِكٌ ناسِكٌ فقير جَوادُ
شِيَمٌ ما جُمعن في بَشَر قط
وَلا حازَ مثلهُن العِبادُ
خُلُق يُخجل النسيم من اللُطفِ
وبأس يذوب منه الجمَادُ.
فكيف لا تصاغ الحروف في وصفه وهو محارب شجاع تتصل في قلبه أسباب الشجاعة، والعطف، فيعاتب المتربصين به، رغم أن له القدرة على أن يضرب فيصرع، لكنه يذكرهم بالإخاء الإنساني، فهو سيف المستضعف والمحروم، فهل عرفت من الخلق أميراً توافرت لديه أسباب السلطان كما لم تتوافر لسواه، فإذا هو منها جميعاً زاهدا، وقد توافرت لديه محاسن الحسب الشريف فقال: «لا حسب كالتواضع»، وأحبه محبوه وغالوا في حبه وكرهه آخرون فوقف منهم موقف الناصح لإخوانه الذي حين حديثهم إليه عن نعيم الأرض نظر إلى المتحدث قائلاً: «كفى بالقناعة ملكا وبحسن الخلق نعيما»، هو ذلك النور الذي استقر في وعي الزمن وضميره، فقد اجتمع له من عناصر القدرة وشرفها، ما لم يجتمع قط لحاكم قبله.
فقد كان فريداً عالماً، وحاكماً كلماته منارات إشعاع ومنابع حكمة وعدة للمتقين، فكم من الكلمات المشرقة والمواقف المضيئة خلفها الإمام ميراثاً للإنسانية كلها ودليلاً للدفاعاً عن الشريعة والعدل والحق والمودة والإخاء والمساواة بين الناس، فلنا في حياة العظماء معين لا ينضب، فهم تلك القمم التي نتطلع بشوق إليها ولهفة، فلولاهم لتولانا القنوط في كفاحنا مع المجهول وأخذت الأمراض تزداد في نفوسنا فيفترق الجماعات ويفرح الأخ بمصرع أخيه، لتهنا في دهاليز مظلمة، فسلام عليه يوم قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار).
اضافةتعليق
التعليقات