في وسط الجموع القى نون تلت قاف القبلة ثم تناثرت حوله الجثث، هناك علـّى ضفاف نهر الدم تقف تلك الطفلة بفستانها الابيض الذي رسم لـها القدر عليه بعض الالوان لتقبلها دماء من كان هنا واضحى بقايا جثمان، تلتفت بعينيها البنيتين ليطاوع جفنها تلك المقلتين ككتاب يذرف الحروف ثم تسربل منها نهر الدموع لتجلس كلعبة مهترئة تتلفت حولها باحثة عن ملاذها الآمن.. بلاصوت فقط دموعها برهنت ذاك الضجيج داخلها وما بين ضجيجها وضجيج من حولها ليعم ضباب صراخهم بينما هي بمقلتيها تبحث عن مصباحها الذي توارى عن الانظار واختفى مابين زحام الدماء، اقترب ذاك الرجل منها حملها فنظرت اليه برجاء لتنطق مابين شهيق الخوف وزفير الفقدان (اريد امي) تلتها شهقات بكاء وعيون لاتود ان تغادر المكان، ثم سار بكيانها حيث لاتدري وليس لـها ذاك الوعي لتكون ضحية عنف عقلية ساذجة قتلت مع كل جثة ارواح هائمة تنتظر اللحاق بها.
ثم ذات يوم رأيت ذات الطفلة على رصيف احدى شوارع دار السلام بثياب مهترئة ولكن ذاتها عيناها مازالت تطلب النجاة، تحرك برأسها مع كل حركة ايمائية وكأن داخلها صراع بين برائتها وذاتها التي فقدت مع امها حين القت عقولهم الساذجة تلك القبلة المسممة بالنون، عدت بذاكرتي نحو فستانها الابيض لأبصر الًيَوُم، حتى بشرتها بدأت تستعبدها الايام، تقدمت نحوها ابصرت يديها التي تمتد للعابرين، تلك اليد الناصعة النقية طافح على سطحها اثار تعذيب لوت رقبتها قليلا واتجهت بنظرها نحو الشمس الحارقة بملامح منهكة منهوكة مهدودة ثم نطقت (من مال الله) وتسربلت دمعة من مقلتها كأنها ترفض طلب يديها لكنها مجبرة، امسكت بيديها الصغيرتين الذي بات ملمسهما خشنا، سألتها: لما انت هنا يااميرتي الصغيرة، فنظرت لي بدهشة ربما هذه الالفاظ باتت لاتسمعها وكأن الكلمات علقت في حنجرتها من غصة الحنين وانزلت رأسها نحو الاسفل.
كررت سؤالي عليها، فقالت امي كانت هناك وذاك الرجل جلبني الى هنا، انا انتظر امي فهي كانت نائمة على الارض حين اخذني الرجل، ستأتي لتأخذني).
موهت مدامعها بأناملي ثم طلبت منها مرافقتي فجحظت عيناها وكأنها لم تعد تثق بأحد لتعطيه يديها ونطقت: (لا لن اذهب الى اي مكان سيضربني ان لم يجدني هنا).
حملتها واخبرتها انني لن ادعه يصل لـها ثم سرت بها لأعيد لـها الحياة وربما لن تعود فيحدث ان تشيخ بعمر صغير وتجد نفسك في سرداب مظلم لن يضيئه احد.
فليس كل من هب ودب مخول لحمل الامانة كتلك الطفلة التي سقطت اسيرة التعصب وفقدت قلبها مع تناثر الدماء ثم برائتها لتشيع بين ايدي ظالمة كأنهم اعداء.
لتبقى اخر الكلمات، ليت الشرور بلا نقاط والحرب بلا راء فيعم السلام في كل الارجاء..
هي الحرب لاتختلف معانيها بمرور الزمان ولاترحم نيرانها براءة الاطفال ولكن حين يشتد علينا زحام الحرب مع عقول لاتفقه الانسانية من يستغلون بقايا الالم لمصالحهم الشخصية تكون قد اضحت البلاد في طي المجهول.
ولكن ابسط الافعال وجل مايترتب علينا كمجتمع مسلم بالدرجة الاولى هو الحفاظ على ماتبقى من الطفولة وامانة الله لدينا ملائكة اضحت بمستقبل مجهول مابين موت مفاجئ في بلد العجائب ومابين اطفال الشهداء، فرفقا بهم..
الحروب يصنعها دائماً الكبار ويقع ضحية لها الصغار، فالأطفال هم أكثر الفئات تضرراً من الحرب، رغم أنهم يبدون قدرة على التكيف ولكنهم يظلون أكثر ضعفاً من البالغين. أضرار جسيمة تتهددهم مابين عاهات دائمة وأزمات نفسية وصدمات ناتجة عن مشاهد دامية شاهدها الاطفال، منهم من مات أحد أفراد عائلته أمامه كتلك الطفلة، ومنهم من بقي في الشارع بعد أن فقد معيله، فاضطر معها لترك مدرسته بحثاً عن لقمة العيش في بلد الخير، وفقد السلام في دار السلام.
في وقت لا تفارق مشاهد الحرب حتى احلام الأطفال اصبحت أخطر آثار الحروب هو الأثر النفسي الذي سيظهر لاحقاً في جيل كامل عايش الرعب والقلق، سيكبر وهو يعاني من مشاكل نفسية وربما ترافقها عاهات جسدية لاتختفي اثارها، تتراوح خطورتها بحجم الصدمة التي تعرّض لها الطفل، قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (فَأَمَّا الْيَتِيم فَلَا تَقْهَر.. وَأَمَّا السَّائِل فَلَا تَنْهَر).
اضافةتعليق
التعليقات