يولد الإنسان فطرياً صفحة بيضاء تحتاج إلى من يسطر عليها مبادئ وقيم أخلاقية حسنة. فالأخلاق كالدستور الذي يقيم سلوكيات الأفراد وتصرفاتهم.
عندما بعث الله سبحانه وتعالى- نبيّه محمّداً "صلى الله عليه وآله" إلى الناس كافّةً برسالة الإسلام، وكتب أن يكون خاتم الأنبياء، وتكون رسالته ودعوته خاتمة الرسالات السماويّة، فكانت رسالة الإسلام داعيةً إلى توحيد الله تعالى، وقصدهُ بالعبادة وحده، والتزام كلّ أوامره وإجتناب كلّ نواهيه، من أعمالٍ وأقوالٍ، سواءً
أكانت متعلّقة بالعبادات، أو الأخلاقيات والسلوكيات، ولعلّ الأوامر والنواهي على اختلافها تسعى إلى تهذيب النفس الإنسانية وتقويمها، والرُّقي بها حدّ القرب من درجات الكمال الإنساني، وشاهِد ذلك ما قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ).
وقد جمع الرسول صلى الله عليه وآله المسلمين تحت لوائه ووحدهم بعد أن كانوا متفرقين متنازعين يقتل بعضهم بعضاً يفتك بهم التعصب وتنخر جسدهم الجاهلية. بعد أن بين لهم أن الأسلام جاء ليكمل مكارم الأخلاق، وينقذه من براثن الجهل والعبودية. فأبقى على ما كان عليه الناس من أخلاق حسنة وأثنى على حُسن الخلق وحث على التحلي بها لما لها من أهمية كبيرة على الفرد والمجتمع. ونهى كذلك عن الأخلاق السيئة وأمر بالانتهاء عنها، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}.
ومن خلال سلوك النبي وحسن خلقه وحكمه بالعدل تأسى الكثير بصفاته واتخذوه قدوة، فازدهرت الأمة الأسلامية وتوسعت بسمو أخلاق المؤمنين وتكاتفهم حول النبي القدوة. فالأخلاق العنصر الأساسي في إنشاء أفرادٍ مثاليين، وأسر سليمة، ومجتمعات راقية.
إذا تهاوت الأخلاق تهاوت الشعوب
علماً أنّ الأخلاق المثالية هي العاصمة للمجتمعات من الإنهيار والإنحلال، كما أنّها هي التي تصون المدنية والحضارات من الضياع، ممّا يجعلها المسبّب الأساسي لنهضة الأمم وقوّتها، ومتى مابني الفرد بني المجتمع. فتؤسس الأخلاق منظومة من القوانين والأحكام التي تحكم المجتمع، وتقوده نحو الصلاح والتقدم والنهضة، وتحميه من الضياع والتشرذم. وتزيد من قوة الترابط الإجتماعي بين الأفراد والجماعات، وتنمي الشعور الجماعي. وتظهر أشكال التعاون والتكافل، فتتماسك المجتمعات وتزيد قوتها وهيبتها.
لإبن خلدون نظرية يوضح أسباب نهايات حضارات الشعوب يقول فيها:
إن الأمم أو الدول لها دورة حياة مثل الإنسان؛ أي تولد ويقوى عودها، وتشتد وتهرم، ثم تموت، وتصوّره يتضمن خمسة أطوار:
الطور الأول: طور القيام والنشأة.
الطور الثاني: هو مايسميه طور الاستبداد والاستئثار بالسلطة والسلطان.
الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك.
الطور الرابع: طور الخنوع والمسالمة والتقليد للسابقين.
الطور الخامس: هو الإسراف والتبذير واصطناع قرناء السوء وإيعاد الصالحين الناصحين.
ﻭلقد ﺃﺷﺎﺭ ابن خلدون إلى أن السلوك الأخلاقي المنحرف هو طريق الانهيار الحضاري، وذكر أن رقي الأمم لا يتحقق بتوافر القوة المادية، أو رقي العقل، بل بتوافر الأخلاق الحسنة. وبغيابها يؤدي بالمجتمع إلى التفكك وغياب الأمن والاستقرار والتصارع على حساب المصالح الفردية وبالتالي انهيار المجتمع. قال الله تعالى.. [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا].
الأخلاق والأيمان
من غير الممكن أن نفصل الدين عن الأخلاق، كل الكتب السماوية حثت في نصوصها على التحلي بالصفات الحسنة والأخلاق الحميدة. وأثرُها في الحفاظ على تماسك المؤمنين ووحدتهم؛ لذا كان التركيز على الأخلاق في آيات الذكر الحكيم وفي أقوال الرسول "صلى الله عليه وآله" حتى أن الله وصف رسوله الكريم "وإنك على خلق عظيم".
فالأخلاق الحسنة الدور الفاعل في نشر الدعوة إلى الله عز وجل، فقد نشر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم رسالته بحسن أخلاقه ورفعتها، فكثير من الناس دخلوا في الدين الإسلامي؛ لما رأوا من حُسن خُلق أصحاب هذا الدين في معاملاتهم وأدق تفاصيل حياتهم. ولمسوا أثرها في حياتهم تنشر الأخلاق السعادة بين الأفراد والمجتمعات، فالفطرة الإنسانية مجبولة على حب الخير وحسن الخلق، فتطيب النفس بالأخلاق الحسنة وتسعد وتستقر.
فغرس الإيمان والعقيدة عند أحدهما يكمل الآخر في بناء وصقل شخصية الفرد ومن غير الممكن أن نبني مجتمعاً دون التحلي بالأخلاق والقيم التربوية السامية، فكانت المبادئ والقيم التي ذكرها الله في كتابه الكريم هي منهاج واضح وغير مُبهم وبلغة عربية بسيطة يفهمها القاصي والداني. والزمنا بالحجة في اتباع المعروف والنهي عن المنكر. لهذا فإن لكل واحد منا له دوره في بناء المجتمع فالتربية الكاملة هي ما اتخذت الأخلاق نبراساً وأساساً في عملية تكوين الشخصية الإنسانية للفرد والمجتمع وتهذيب أخلاقه. إرضاءً لله واصلاحاً للمجتمع.
فالإنسان يحتاج بين الفينة والآخرى إلى بناء، ومتابعة، وترميم سلوكه.
فمن ناحية:
- البناء.. هي بناء الشخصية المؤمنة والعاملة بكتاب الله وسنة رسوله والسير على نهج أهل البيت. فهم القرآن الناطق على الأرض من حيث بناء شخصية الطفل من خلال الأخلاق المكتسبة من والديه ومعلميه وأقرانه (فمن شب على شيء شاب عليه). بالإضافة إلى الأجر ومرضاة الله، قال الإمام جعفر الصادق "عليه السلام": قال موسى ابن عمران يارب أي الأعمال أفضلُ عندك. فقال عز وجل: (حبُ الأطفال فإنّي فَطرتُهمْ على تَوحيدي، فإنْ أمتُهم أَدخَلتهم بِرَحمتي جَنتي).
- أما المتابعة.. هي مراقبة النشأ وما يتعرض إليه من تغيرات تؤثر على هويته ودينه وتداخل الثقافات وأثرها عليه وإصلاح مايمكن إصلاحه.
- الترميم.. هو إعادة هيكلة تصرفات الشخص وتقيّمها من خلال تعامله مع بقية الأفراد بخلقٍ حسنٍ وبما يرضى الله يُحلَ حلاله ويحرم حرامه. فالأخلاق الحسنة كالدستور الذي يقيم سلوكيات الأفراد وتصرفاتهم.
والإنسان المؤمن يحاسب نفسه ويزكيها مماعلق بها من سلوكيات وأعمال لا ترضي الله. فالعبادة تثمر في النفس أجمل الأخلاق وأحسنها، وعلى المسلم أن يظهر حُسن خلقه في كافة تعاملاته. ومن وضع الله نصب عينيه في كل الأمور سلم من براثن الآثام. فإن التعامل مع الآخر على أساس الأخلاق الرفيعة وعلى أساس التعامل الإنساني يجعلنا نحب بعضنا بعضاً ومن هنا نبني مجتمعاً صالحاً مثقفاً واعياً يعرف كيف يتعامل مع الآخر، كيف يبني مجتمعاً من خلال القيم الأخلاقية الرفيعة، نبني مستقبل لأبنائنا يحمل في طياته الأمل والتفاهم والخلق.
فما أحوجنا اليوم إلى أن نتمسك بأخلاقنا ونعتز بها، لنستظل بها في وافر المحبة والإخاء والترابط، ولنظهر بها للأمم الأخرى عظمة هذا الدين وجلاله وبهائه.
ما إن تمسكنا بما أمرنا الله به ورسوله وأهل بيته نصرنا ديننا الإسلام الذي ختم به الله جميع الأديان وحافظنا على وحدة مجتمعنا. فلنغرس في قلوب أبنائنا الرحمة وننثر في دروبهم زهور العقيدة المحمدية لتُنير عقولهم وتتشبع أفكارهم.. ولا يضلوا بعدها أبدا.
اضافةتعليق
التعليقات