في ساعات الليل المتأخرة، حيث يزدحم السكون، يصطخب قلمي ويبدأ بالتراقص على أوراق دفتري الذي أُخلّد فيه ما يجول بخاطري. طابت له الكتابة اليوم عن العشق والوفاء، بعدما أذهلتني قصص التضحيات التي تأتي حين يتجذّر ذلك العشق وسط القلب، لتنمو شجرة حُبّ خالدة بالنسبة للعشيقين، كقيس الذي أذهب العشق بفؤاده وجُنّ بسبب ليلى، فجعل من ديارها الخالية متنفسًا له، بتقبيل الجدران، وما حبّ الديار شغفَن قلبه، ولكن حبّ من سكن الديارا.
ثم هام على وجهه إلى الصحراء، وتوسّد صخورًا زخرفها بأشعاره لتليق بموتة عاشقٍ ارتحل جريحَ الفؤاد، منكسرَ القلب، وغيرها من قصص العشق الكثير...
لكنّ الفضول راود فكري وهو يبحث عن ملحمة تقفُ أمامها جميع هذه القصص عاجزة.
في هذه الأثناء، انطفأ نور الغرفة فجأة، ودخل الخوف إلى قلبي، عندما فُتِح بابُ غرفتي ليدخل منه شخص يحمل شمعة أنارت المكان.
لا أنسى عمامته الزمردية وعباءته الصوفية. كان مظهره غريبًا، يرتدي الزيّ العربي كأنه جاء من زمن النبي (صلى الله عليه وآله).
تقدّم نحوي حتى وصل إلى طاولة الكتابة التي أمامي، ووضع يده على دفتري. كان يتزيّن بخاتم عقيق، غاية في الجمال ودقّة الصنع، وقال لي:
– دعيني آخذكِ إلى ملحمة لا نظير لها.
أخذ بيدي، وإذا بي أمام حصن كبير، فراح يُحدثني عنه قائلاً:
– هنا حدثت معركة ضارية خسر فيها اليهود، وفُتحت حصونهم، وقُلعت بابٌ عجز عن قلعها أربعة وأربعون رجلاً من أشدّاء العرب، ليتقدّم بطلٌ ما تقدّم في معركة إلا وأحرز النصر فيها. لا يُبالي بالموت، كأنه النمر في الاقتحام، اقتلع تلك الباب وحده، وبكفّ واحدة! أربعة وأربعون يعجزون عن قلع بابٍ لحصن ضخم، فيقتلعها شخص وبكف واحدة! أيّ بطل هذا؟ وأيّ قوّة لديه؟
سرحتُ بالنظر إلى الحصون الشامخة التي تطاول عنان السماء، كأنها جبال نحتتها يد الأساطير.
فجأة، التفتُّ إليه:
– وما دخل هذا بملحمة العشق التي جئتني بها؟
– سأجيبكِ.
نتقدّم خطوة، وإذا بي أمام جنازة لشابة في ربيع عمرها، كأنها الخيال من شدة النحول.
يقف أمامها مجموعة من الرجال، زيُّهم مثل زيّ الرجل الذي بجانبي.
يتقدّم أحدهم نحو الجنازة، يريد حملها، ولا يستطيع. بدا لي منهار القوى ككهل قُصِم ظهره.
تسيل الدموع على خديه، لتفضح مرارة الوداع، وكأنّ اللحظة تفلق روحه، فينسلّ قلبه مغادرًا مع الحبيب.
ماذا لو تجمّد الزمن عند النظرة الأخيرة؟!
لكنّها كانت لحظات خائنة، تمضي بلا رحمة، لتترك خلفها فراغًا يلتهم كلّ شيء...
تساءلتُ مع نفسي: من هو؟ من هي؟
أجابني الرجل ذو العمامة الزمردية:
– هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، العملاق الذي اقتلع باب خيبر بكفّه. إنه البطل الذي تساءلتِ عنه، ثقلت عليه حبيبته فاطمة، ووَهَن عن حملها.
يقطع كلامنا نداء:
– أعينوني... أعينوني...
يا سلمان!
يا أبا ذر!
يا مقداد!
أعينوني!
حينما نادى "يا سلمان"، التفت إليه الرجل وذهب مسرعًا، وتركني مدهوشة...
سلمان؟! إنه سلمان المحمدي!
كان معي، وقد أوقفني على ملحمة عشقٍ تنحني أمامها جميع الملاحم...
ملحمة لم تُروَ، ولكن ظلّ صداها يطنّ في الأعماق، كجرحٍ أبديّ لم يندمل...
اضافةتعليق
التعليقات