ذكرت كتب التاريخ أنه لما صودرت حقوق السيدة فاطمة (عليها السلام) من ميراث أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) احتجت عليهما بكتاب الله، فلم يكترثا لما بينت من براهين وأدلة دامغة وبقيا مصرين على تجريد آل الرسول (صلوات الله عليهم أجمعين) من حقوقهم ، فقررت (سلام الله عليها) أن تطرح قضيتها أمام المسلمين؛ لتحصل على الدعم والتأييد، فالتجأت إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وبينت ظلامتها أمام المسلمين في خطبة جامعة حملت مضامين معرفية عالية، واستشهدت بكتاب الله، وسنة رسول الله.
وقد تناولت الأقلام من كبار الكتاب والباحثين شروحات وتفسير لذلك الخطاب المبارك قبل الدخول في موضوع بحثنا (الأبعاد التربوية في الخطبة الفدكية وغايات احتجاجها) لابد من الحديث عن مضامين ذلك الخطاب بصورة عامة وموجزة (1): بدأت بالحمد والشكر لعظمة الله تعالى، والاعتراف بتوحيده سبحانه، والثناء عليه وذكر صفاته ونعمه وعرجت على مقام النبوة، وعظيم صفاته ومنزلته في عالم الآخرة، وبيان جهاد النبي (صلى الله عليه وآله) وما عاناه وما وصل المسلمون إليه من فضل وبيان فضح ظهور المنافقين، والمنتهزين، والذين أضمروا العداوة للرسول (صلى الله عليه وآله) في حياته، وانتهزوا الفرصة بعد وفاته.
وقد عرضت الخطبة أمام حشد من المسلمين مسألة فدك وأن أبا بكر وعمر أصرا على ما روياه من أن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) قال في حياته أنه نحن معاشر الأنبياء لا نورث واستنهضت المسلمين لنصرتها، وقرعتهم على سكوتهم وخذلانهم وبينت الشرائع إذ قالت: (فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة).
فالتفصيل في الأبعاد التربوية المستمدة من ظروف تلك الخطبة وأوضاعها، ثم الحديث في غايات الاحتجاج المقتبسة من نورها (عليها السلام) فمن الطبيعي أن لا نصل إلى كمال مضامين كلامها الذي يأتي من حيث الأهمية مفرداتها الجزلة وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نصل إلى جزء بسيط من شخصية الزهراء (عليها السلام) بعد الوحي القرآني، وحديث رسول الله (صلى الله عليه واله)، إلا إنها محاولة نبتغي من ورائها رضا الله تعالى أولاً، وتمجيد تراثنا الطاهر من خطب وأقوال أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإفادة منها في إصلاح الأحوال والله المستعان.
المبحث الأول الأبعاد التربوية في الخطبة الفدكية
إن مفهوم البعد في الجوانب اللغوية قد جاء من البعد: ضد القرب والجمع أبعاد، وأبعاد المسألة: أهميتها العملية، وأبعاد الموضوع: مداه واتساعه وأعماقه وما يتعلق به والبعد التربوي الإسلامي: هو المدى الواسع الذي تتحرك فيه العملية التربوية بمفهوماتها ومضامينها قياساً بالمذاهب التربوية الأخرى قديماً وحديثاً ولما كنا نصبو إلى استنباط الأبعاد التربوية من الخطبة الفدكية، فيكفي الوقوف والتأمل في مطلع الرواية التي نقلت وصف السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند خروجها من بيتها: انه لما اجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (عليها السلام) فدكا وبلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنت أنه أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم ، فلما أمسكوا عادت في كلامها ونستنج من ذلك ما يأتي:
التزام الحجاب الشرعي
يصور لنا مطلع الرواية الحجاب الشرعي الذي كانت تلتزمه الزهراء (عليها السلام) كالآتي: أ) لاثت خمارها دلالة على وجوب ستر الرأس للمرأة المسلمة عند خروجها من دارها، فاللوث الطي والجمع، ولاث العمامة شدها وربطها، ولاثت خمارها لفته، والخمار بالكسر: المقنعة، سميت بذلك لأن الرأس يخمر بها أي يغطى وقد جاء الحديث النبوي الشريف الذي يصف النساء اللاتي لا يلتزمن بحجابهن الشرعي، وأنهن لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، قال رسول الله (صلى الله عليه واله سلم): صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وأن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
ب) واشتملت بجلبابها والاشتمال بالشيء جعله شاملا ومحيطا لنفسه، والاشتمال على الشيء بالعكس، أي الإحاطة به، والمراد أنها (عليها السلام) غطت رأسها وصدرها أولا بالمقنعة، ثم لبست ملحفة تغطي جميع بدنها، فالتفت بها، وهذا كناية عن غاية التستر، وهي عادة النساء الخفرات - بالتحريك أي شدة الحياء - إذا أردن الخروج من الدار إلى الخارج، تحفظاً عن الأجانب وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها أي إنها (عليها السلام) لم تخرج وحدها لملاقاة مناوئيها، وكأنها تقرر درساً تربوياً دقيقاً للنساء المسلمات بالحذر من الخروج الانفرادي لملاقاة الرجال، لكي لا يقعن في دائرة الخلوة المحرمة شرعاً، وأخذ الحيطة التامة من هكذا أمر مهما كانت خطورة الأمر الذي تبتغيه، فضلا عن ذلك فان السيدة الزهراء (عليها السلام) توجهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجل المطالبة بحقها ولم تذهب إلى دار ابي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الانسب وهو المركز الإسلامي حينذاك، ومجمع المسلمين وهو مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وانها اختارت الزمان المناسب ايضاً ليكون المسجد غاصاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار؛ لتطرح قضيتها امام الرأي العام.
(ثوبها تطأ ذيولها) أي: كانت أثوابها طويلة تستر قدميها، وتضع عند المشي قدمها عليها، وجمع الذيل بعده الأجزاء، أو تعدد الذيول بعد الأطراف الأربعة، أو بعهد تعدد الثياب.
ج- ما تخرم مشيتها مشية رسول الله وفي ذلك تصوير للحزم في المشي والابتعاد عن التمايل وإظهار المفاتن، وفي الأخبار: إن فاطمة (عليها السلام) كانت أشبه الناس وجها بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت مشية فاطمة مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ح (أنيطت دونها ملاءة) نيطت، علقت، والملاءة: الإزار، ويبدو من ذلك التأكيد على ستر المرأة وحجبها عن الرجال الأجانب دفعاً للشبهات ناقش كاتب بحث معارف من خطبة الزهراء مسألة ابتداء الزهراء (عليها السلام) خطبتها بالأنة بدلاً من السلام قائلاً: سأبين سبب عدم البدء بالسلام؟ السلام مستحب ورد السلام واجب هذا أولاً، وثانياً: إنها في حالة وقوف أمام مغتصب لحقها، فلا ضرورة للمجاملات والدبلوماسيات، وثالثاً: (عليها السلام) تتكلم من باب القوة؛ لأنها بنت سيدهم ونبيهم، ففي الحالة الطبيعية هي تأمر والجميع ينفذ ولعل من تلك المناقشة نستطيع التنبيه على أن للمرأة المسلمة تقليل الكلام والمجاملات مع الرجال الأجانب، وعدم الخضوع والخنوع في القول امتثالاً لأمر الله تعالى: "فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا" فالآية دالة على حرمة دخول المرأة في تفاصيل مثيرة للفتنة مع الرجل الأجنبي وإنما يجب أن تقتصر على الحديث الهادئ المحتشم سواء كان ذلك في معنى كلامها، أو طريقة أدائها، أو ضحكها، أو غير ذلك كثير والنهي في قوله (فَلا تَخْضَعْنَ) ظاهر بالحرمة، فيجب التقيد به وقد يخطر في البال : بأن ترقيق الصوت ونحوه ليس للفتنة وإنما هو للتمثيل فقط ! وجوابه: أن هذا صحيح عمليا من زاوية قصد المرأة المتكلمة ونيتها إلا أن المنهي عنه هو إيجاد الفتنة بغض النظر عن القصد لأن النتيجة المذكورة في الآية وهي الطمع بالمرأة مأخوذة بواقعها لا بقصدها.
فيجب على المرأة أن تتعمد اجتناب ذلك جهد الإمكان بقي القول إن التزام الحجاب في هذه الأيام ليس دليل إيمان فقط، وانما هو إلى جانب ذلك دليل قوة الشخصية لمن التزمت به من المسلمات، فالزهراء (عليها السلام) قدوتنا في قوة شخصيتها والتزامها الحجاب الشرعي، وفي عفتها وأيمانها.
اضافةتعليق
التعليقات