بلباس الحزن ترتسم معالم العشق على جبينها ويداها الصغيرتان تكادا لا تقويان على حمل المناديل ولكنها بكل حب تسرع بين الأقدام متعثرة بأرض ديار الكرام ترفع المنديل تلو الآخر وتلهج بحب الحسين، لتبرهن أن هناك عشق لا يشترط بعمر ولا معرفة، عشق قد أنزل من الله عزوجل في صدور عباده زمزماً صافياً، فيصلح منظومة الجسد الذي تكاثرت عليه الفتن وضعفت أركانه حين داهمته اشارات الحداثة فوجدنا العالم كله قد اتجه نحو التجديد مصحوبا بإشارات خطرة في تهميش الدين ملغية الاعتبارات الدينية والغيبية.
ولا وجود عنده لحقيقة واحدة، إنما حقائق متعددة يصوغها الإنسان بنفسه، وفق منظومة مؤطرة في حدود النفعية، جُل اهتماماتها مادية مطلقة، أشبه بأرضة نخرت أركان الدار وجعلت جدرانه خاوية من الداخل بلمسة واحدة تؤول إلى السقوط، ونحن تائهين لا نعرف أين المرسى ومتى الخلاص باحثين عن اصلاح لمنظومتنا التي أفسدناها بأيدينا حتى تتزلزل الأرض تحت أقدامنا ونخرج من مخاض عميق كأنه منام يمر علينا كل عام ولو شئنا لأصبح حقيقة تلازمنا على مدى الأيام دون توقف.
حيث تمتد شرايين الأرض لاصلاح منظومة الجسد المهترئة، ففي الوقت الذي يشعر أغلب الناس بخواء المعنى في حياتهم تجدهم يهرعون لتلبية العشق المباح الذي لا يقتصر على فرد ولا تحويه جماعة، عشق إلهي منزل تمتد خيوطه عبر الأزمان باحثة عن نفس صافية لتصلح منظومتها فتعيد إليها الحياة الحق.
تلك الحياة التي يبحث عنها الجميع لا تحمل في كنفها طمعاً ولا ظلماً، فهي منظومة متكاملة محكمة النسيج، مترابطة الحلقات، تقوم على أركان ثابتة من القرآن الكريم، وسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته عليهم السلام، مما جعلها تُمثل النموذج الأمثل كمنتج معرفي، وعقائدي حضاري متجذر في الإرث الثقافي الإسلامي، فهي ليست مجرد حادثة تاريخية، بل نهضة حية متجددة تعبئ نسقاً من القيم للأجيال عبر العصور.
أركان المنظومة الحسينية
إن لمنظومة الإمام الحسين تشريعات مشبعة بالإيمان مرتبطة بالله تعالى، متمثلة بطاعته وإقامة حدوده، من أجل الإنسان الذي استخلفه واستعمره في الأرض، وقد تجلى البعد الديني في عدد من المؤشرات كما نشهدها كل عام يزداد حبلها متانة وقوة للاتصال بخالق الكون وفيها تمثل المظاهر العبادية والروحية دلالات واضحة لدرجة الإيمان، وصلت إلى حد العشق، وتجلت بوضوح من خلال روحانية الأفعال المتمثلة أولاً بالصلاة، فإقامة الصلاة في كربلاء، تُعطي دلالة واضحة على الإيمان والصلاح لتنهى عن الفحشاء والمنكر بكل أشكاله، ثم امتدت هذه الروحانية في انتشار كتاب الله وقراءته وتدوينه على مدى طريق العشق اقتداءً بمولانا الحسين (عليه السلام) حيث كان ومنذ بداية تحركه يكثر قراءة القرآن، ويجادل ويحاجج به، ثم ختمت في أرض كربلاء صور الناس وهم يسعون للهدف الأساسي الذي خرج إليه الحسين (عليه السلام) حيث لم نشهد بينهم سوى التواد والتراحم والمؤاخاة والبحث عن الاصلاح فقد حدد الإمام (عليه السلام) الهدف من خروجه، إصلاح المجتمع في أُمة جده، بقوله: «وإني لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي صلى الله عليه وآله، أُريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرَ بِسيرَةِ جَدِّي وأبي علي بن أبي طَالِب، فمَن قبلني بقبول الحق فالله أوْلى بالحق، ومَن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق».
وهنا كان مغزى الحادثة الروحانية التي تستمر لأيام في أرض الكرام وتنشر كل أهداف هذه الثورة فالنهضة الحسينية جاءت كضرورة حتمية، في وقت انحرف الحكم الأُموي بالرسالة، فعمل الإمام الحسين (عليه السلام) على إعادة التوجيه إلى الخط المحمدي بافتعال صدمة قوية تقوم على تنبيهه من الغفلة، وجعل الشهادة وسيلةً لتركيز مفهوم الامتداد والبقاء الفعلي للرسالة المحمدية، وهذا مايحدث في ديارنا ونحن نعيد بدل الثورة ثورات وكل يوم نقف أمام حكم أموي تسرب كسم أفعى عبر الأزمان لا ينقطع إلا بذكر قادتنا الذين كانوا ومازالوا هم سفينة النجاة التي تحملنا في كل آن ومكان مليئة بمعطيات فكرية وأخلاقية استهوت القلوب والضمائر الحرة، بعيداً عن أي صبغة مذهبية أو دينية.
فثورة الحسين ليست صرخة اعتراضية على حالة تاريخية محددة، مكتفية بأهدافها ومكانها وزمانها، وليست ثورة حسينية شيعية حصرية وكفى، وليست ثورة إسلامية جامعة عامة وكفى، إنّها ثورة إنسانية شاملة مطلقة، تعني كلية الإنسان، جوهراً وروحاً وقيماً، كياناً وكينونةً، إنّها ثورة ترسم هداية الطريق البشري في منطلقاته وأبعاده مثالاً عالمياً للأزمنة والأجيال، هكذا الدعوات والرسالات، بالتضحية تنتصر وبالشهادة تنتشر.
اضافةتعليق
التعليقات