قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(فاطر: ٣٢). بداية تبين لنا الآية هنا "إن أصل التصنيف القائم بين الناس هو وفق الاصطفاء الإلهي وتعامل الناس مع المصطفين وخطهم الإلهي، لذا فالظالم لنفسه هو الذي لم يكن ضمن خط الاصطفاء الإلهي ولم يكن ضمن أتباع المصطفين، أما المقتصد والسابق فهما الصنفان اللذان استجابا وتبعا خط الاصطفاء الإلهي".(١)
فعن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا...}، قَالَ:" وَالسَّابِقُ بِالْخَیْرَاتِ الْإِمَامُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْعَارِفُ بِالْإِمَامِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِی لَا یَعْرِفُ الْإِمَامَ"(٢).
إذن الصنف الأول السابق هم الذين سبقوا الخلق في الإقرار لله تعالى بالعبودية واختارهم واصطفاهم على العباد، وجعلهم أئمة وقادة إلهيين من بعد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وعلى آله). وأما الصنف الثاني المقتصد فهم أتباع أهل الاصطفاء ومن أئمة الهدى -كما أشارت الرواية- أما الصنف الثالث الظالم لنفسه فهو الذي ضل عن اتباع أهل الاصطفاء باتباع أئمة الكفر.
ولعل تقديم صنف الظالم لنفسه كونهم الأكثرية ثم المقتصدة الأقل منهم ثم السابقون وهم الأندر، كما يشير لذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ}(المائدة: ٦٦)، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) فِی قَوْلِ اللَّـهِ عَزَّ وَ جَلَّ {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِیلَ وَما أُنْزِلَ إِلَیْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ}، قَالَ: " الْوَلَایَةُ "(٣)، فالآية تصف أن الأكثرية هي ممن لم تُحسن التعامل مع أمر الولاية، والعمل بما أنزله تعالى من أمر اتباع الأئمة الهداة من العترة الأطهار.
ثم تصف لنا الآية الآتية حال صنف من هؤلاء بقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ }(فاطر: ٣٣)، الذين- كما يبدوا - هم صنف المقتصد وذلك من وصف السورة للسان حالهم بقوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ}(فاطر:٣٤-٣٥).
إذ إن الارتباط بأهل الحق يستوجب أن يكون المؤمن من أهل البذل والإنفاق في سبيل الله من نفسه وماله وقلبه، خالي من التعلق بما يعطيه ليكون عمله خالصًا واتباعه صادقًا، بالنتيجة وكأن في الآية وصف لشعور نفسي مروا به، شعور تمني الراحة والرخاء والرفاه كالذي يعيشه أهل الدنيا ظاهريًا، فليس كل إنسان يستطيع أن يكون في أعلى مراتب الزهد في الدنيا التي بلغها المصطفين.
كما نقرأ في دعاء الندبة فيما خص به الأنبياء المصطفيين [بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنيا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرجِها، فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الوَفاءَ بِهِ فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ العَلِيَّ وَالثَّناءَ الجَلِيَّ وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلائِكَتَكَ وَكَرَّمْتَهُم بِوَحْيِكَ وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ وَجَعَلْتَهُمُ الذَّرِيعَةَ إِلَيْكَ وَالوَسِيلَةَ إِلى رِضْوانِكَ](٤).
إذن صنف المقتصد هم من المبادرين المجاهدين لأنفسهم ليكونوا من أتباع المسارعين والسابقين في فعل الخيرات، ولهذا جرى الحمد على لسانهم أن الله تعالى قد غفر لهم هذا الشعور ولم يؤاخذهم به، ولم يسلبهم توفيق الإنفاق في سبيله في دار الدنيا، بل وشكرهم أن ادخلهم جناته وعوضهم من فضله على صبرهم ومجاهدتهم بأن جعلهم ممن حلّ دار المقام وتحلى بزينة أهل الجنان.
أما صنف الظالم لنفسه فتصف السورة لسان حالهم بأنهم ممن كفروا بأنعم الله تعالى وظلموا أنفسهم بأن لم يضعوها في مواضعها هي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر:٣٦-٣٧).
بالنتيجة هذا التصنيف الثلاثي يبين لنا إن من اختار أن يكون من القلة التابعة لعباد الله المصطفون وصبر على مرارة اتباع الحق والاستضعاف وعاش كادحًا سيُعوضْ بأن يُحله تعالى بدار المقام حيث لا تعب ولا حزن، أما الذين اختاروا حلاوة الدنيا واتباع قادة الباطل فهم لن يخفف عنهم العذاب ولا يعد حتى الموت مريحا لهم، حيث لا ينفع الندم ولا يمكن العودة.
—————
اضافةتعليق
التعليقات