وقفتُ على دكة داخل الصحن المقدس، اتأمل الحمام على قبته، واقبلت اشمّ العطر من بابه بجنون، ثم امسكت الشباك المبارك ودعوتُ ان يفك ضيقي دون ان يعتريني الارباك من كلماتي التي اقولها في رفقة من كان معي، فأنت يا سيدي احدى وسائل التقرب الى الله وانت من اولاد النبي "عليه وعلى آله افضل الصلاة والسلام" فحتما ستكون من انبل الخلق.
ثم خرجت ثانية الى الصحن وجلست ناظرة الى راية خضراء مرفرفة على تلك القبة ذاتها التي تمنيت لو انني استطعت تقبيلها، في اثناء الافكار التي لازمتني منذ دخولي الحرم الشريف وتركيز عيناي على الراية الخضراء رأيت رجل يعتلي القبة من الخارج وبيده قطعة سوداء فادركت ان الوقت حان لتبديل راية براية وهذا ما يدعى "مراسيم تبديل الراية".
بعد ان انزل الرجل الراية الخضراء ووضع بمكانها الراية السوداء شعرت وكأن شيئا فيّ توقف في محطة ما!.
فبدأت اتذكر امي حين سردت اليّ جزءا يسير جدا من حياته الشريفة قائلة:
اسمه موسى ابن جعفر الصادق "عليه السلام" وامه السيدة حميدة ابنة صاعد، اندلسية الاصل، وهي كانت على دراية من العلم والمعرفة والإيمان، وهو من احفاد النبي محمد (ص).
ولد في سنة 128 للهجرة في يوم الجمعة من شهر صفر بمنزل في قرية الابواء الواقعة بين مكة والمدينة المنورة، وتوفي في الثالث والعشرون من شهر رجب.
عاش مع ابيه الإمام الصادق عليه السلام وترعرع في العهد العباسي وشهد كل المشكلات التي تعرض إليها والده و واجهها وجها لوجه بكل بسالة وشجاعة دون ان يمس قلبه الخوف، كان يمتلك قدرة هائلة لقابليته في ضبط النفس "الاعصاب" في كل ما يمر على رأسه من المصائب أي انه شديد الحرص على لسانه حتى في اشد المحن بطريقة جعلت الغابرين واللاحقين تلتفت انظارهم اليه لقدرته غير الطبيعية في التحمل، وعلى هذا الاساس لقب باللقب الأكثر شيوعا ألا وهو "كاظم الغيظ".
سجن الامام عليه السلام كثيرا ولسنوات عديدة، كان قد سجن في سجن البصرة والقنطرة والفضل ابن الربيع مرّة للاحتجاج ومرّة للاستهانة (الدفاع عن الدين)... واخر مكان سجن فيه هو "سجن السندي" حيث كان هذا السجن كالحفرة المغلقة لا يعرف فيها الليل من النهار، حتى ان الإمام موسى ابن جعفر "عليهم السلام" كان يعرف ان النهار طلّ عند سماعه اصوات اقدام الحرس وعلى اثر التعذيب الذي عاناه دون رأفة أو رحمة، فأصبح كل من يذكر اسمه يقول "سلاما على المعذب في قعر السجون".
كان مبتغاه الأول ان تعمّ الإنسانية بين الناس وان يُنشر الدين الاسلامي الذي عارضه الكثير وها نحن اليوم نشهد ثبات الدين الذي اراده الائمة والانبياء ونساءهم واولادهم وكل مؤمن سعى في سبيل الاسلام...
كان عليه السلام مثالا يضرب في المروءة والشهامة والحق وهو كثير الحكمة والتروّي في كل امر كان يقدم عليه.
هذا الامام المعذب الذي نال الشهادة بشرف، استشهد مسموما في السجن محاولة منهم لمنع الرسالة الاسلامية لكن هيهات ان تذهب شهادته سدىً، واليوم نرى الشارع الكاظمي يعج بالموالين له رافعين ايديهم للعزاء والمواساة.
فالعاصمة في هذه الايام الحزينة شهدت عددا غفيرا من الزائرين الذين يقدمون كل عام على احياء مراسيم حفيد الرسول المصطفى "صلى الله عليه واله وسلم".
ثم وبعد الكثير من الافكار التي بقيت في رأسي عدت الى الحاضر على اثر رائحة زكية انبعثت من المرقد الطاهر تغلغلت فيها الراحة الى اعماق نفسي لما فيها من حب يوزع مجانا على المسلمين كافة.
الجلوس في الصحن الكاظمي يجعل الإنسان مجبورا ان ينسى ما يشغله من حزن ووجع... ليرمي التعب بعيدا عن جثته التي انهكتها الحياة دون مبالاة. فكل كلام الحب والنقاء لن يستطيع وصف القليل من طيب وكرم هذا الامام المعذب الذي حظي بكل الخصال الحسنة حيث لقب ايضا ب "صاحب الكرامات" حيث انه لا يرد طالب حاجة ولايتركه خاوي الوفاض والكثير من الناس يذهبون الى مرقده الشريف للدعاء والطلب ويستنجدون بأسمه لله تعالى، وهكذا كان الإمام موسى ابن جعفر الصادق عليه السلام قدوة للجميع ولكل من اراد ان يكظم غيظه.
رأيت الجمال رأيت العشق والامان عند عتبة ضريحه شعرت بالراحة داخل هذه البقعة التي يعتبرها كل من يدخل اليها قطعة من الجنة .
اضافةتعليق
التعليقات