كثيرا ما أشعر أن الكلمات التي نقرأها ونتعثر بها ونشعر بمضمونها هي ليست محض صدفة إنما رسالة قد وضعت في طريقنا كتنبيه لم نفطن له سابقا وعاد على هيئة صياغة أخرى تجر أعتاب الوعي مقيدة إياه هذه المرة أن انتبه، كما حدث معي اليوم حيث تعثرت بنص جعلني أقف عنده وأكرره بدل المرة ثلاث وكأنه مشهد قد زارني من قبل فلم أعره الاهتمام فعاد على هيئة نص معتق برائحة الياسمين حيث كتب أحد المبدعين قائلا:
"باعت أمي خَاتمها لأجل دراستي، وأساورها لزواج أختي، وعِقدها لمرضِ أخي الصغير، لم تترك على جَسدها شيئًا من الزينة، أنا تخرجتُ وسافرتُ خارج البلاد أكلّمها مرتين كل أسبوع، ولا أكادُ أسمع صوتها من البكاء، وأختي تزوجّت رجلا ثريًا وتعيشُ اليومَ أحلامها كاملةً، أما أخي الصغير "لاعب كرة قدم شهير" لم يعد للبيت منذ خرجَ منه في أولِ عقد!
مضت أعوام كثيرة، وهي تركضُ حافيةً للباب، كلما هزه الريحُ أو طرقهُ الجيران، لكنَها كثيرًا ما كانت تعودُ بالدمع وَعَرَجٍ في ركبتيها، ماتت أمي وهي تخبئ خلخالها في محرمةٍ قديمة، مخافةَ أن يمرضَ أحدنا!"
هو نص انتشلني من حاضري فأعادني للماضي حيث خاتم أمي الذي تخلت عنه لتجعلنا أكثر سعادة بين الأطفال وكأنها عبق ياسمين ينتشلنا من تلوث الهواء وكثيرة تلك الأشياء التي لا يسعني ذكرها فهي تجعل من قلبي يعتصر ألماً وأنا انظر لنفسي إنني لم أفها حقها بعد بينما أستمع لأخي الصغير وهو يصرخ بصوت عالٍ أحيانا قائل أنها لا تشعر به، فأضيع بين الكلام ورده بسؤال ينتابني كثيراً، تشعر الأمهات بنا دوماً لكن من يشعر بها؟
الأم في رسالة الامام زين العابدين
عالمٌ عصي على الوصف، ولا تستطيع الكلمات أن تصفَ هذا العالم أو تحتويه، لأن في الأم سرا عظيمًا أودعَه الله في فطرتها، فجعلها ترى في أبنائها كل حياتها، ولهذا تُعطيهم من قلبها وعمرها دون أن تنتظر أي مقابل، ولا عجبَ أن الله تعالى جعل رضاه مربوطا بِرضا الأمّ وبرها، فعندما نقرأ في رسالة الحقوق للامام زين العابدين (عليه السلام) عن حق الأم، نراه يبينه على أنه من أكبر الحقوق على الولد، ويختصر عظمتها ومقامها بتلك الكلمات المعتية فيقول: "فحقّ أمك عليك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً، وأنّها وقتك بسمعها وبصره ، ويدها ورجلها، وشعرها وبشرها، وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك فرحة، موبلة (كثيرة عطاياها)، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمّها، حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظلك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاءً، وحجرها لك حواءً، وثديها لك سقاءً، ونفسها لك وقاءً، تباشر حرّ الدنيا وبردها لك دونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه Yلاّ بعون الله وتوفيقه".
وكأنّ الإمام -عليه السلام- يريد من الإنسان دائماً أن يتذكر ولا يسهو عن هذا الحقّ العظيم للأم ومن بعد ماذكر الامام (عليه السلام) من وصف فلا أجد وصفاً يرادف أو يقابل قوله فقد وضع كل حرف مكانه وكل فعل سهما في الأحشاء ينبهه، فكم تحملت الأم من العذابات في سبيل سعادته، وكم مرت بمراحل ومصاعب تحملتها راضية مستبشرة، مذ كان جنيناً في أحشائها، حتى جاء على قدر وأخرجته يد القدرة الالهية من عالم الرحم إلى عالم الدنيا، فروته من نفسها لا تهتم لضعف في بنيتها ولا لذبول في جسمها، يخفق قلبها مع كل خفقة لقلبه وترى آلامها أنساً أمام راحته.
ثم لم يكن همها إلا أن تراه مسروراً، لا تغفل عنه لحظة واحدة، تعطيه من حنانها ليأمن، ترضى أن يصيبها الجوع والبرد والأرق لكي يشبع ويتدفأ ويتلذذ بالنوم وقد تجسدت فيها كل معاني الخير والعطاء والبذل والتضحية، فلم أكن أنتبه لقدم أمي وهي تؤلمها قدر ماكنت أنتبه لحاجتي التي أود قضائها حتى مر الوقت بي ورأيت كم كبرت وأنا ما شاهدت معالم وجهها وهي تتغير وكيف أصبحت هكذا بينما هي تحفظ كل ندبة بوجهي كيف حدثت ومتى ومن ماذا بينما أنا لا أعرف عنها سوى اسمها.
أمي حتى تاريخ مولدها لا أعيه وهي تحفظ مولدي باليوم رغم كبر سنها، فأي معروف يرقى إلى كلّ ما قدّمته، ومن يستطع أن يفيها ساعة من سهر أو تعب أو ثقل أو ألم وعناء، أو يقدّم لها الشكر على ذلك، لذلك يقول الإمام زين العابدين "عليه السلام": "فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه"، بهذه العبارات الندية والصور الموحية، يستجيش الإمام وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء، ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام، إلى الناشئة الجديدة والجيل المقبل، وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء إلى الوالدين نبع الحنان والعطاء إلى برهما وهو كان من أولويات كتاب الله وسنة نبيه، والتوجيه إلى شكرهم فهذا الشكر يحتاج إلى تسديد وتأييد وتوفيق من العلي القدير .
اضافةتعليق
التعليقات