قبل واحدٍ وعشرين عامًا، كنا ننتظر على قلقٍ خبرًا من أمي، التي ذهبت إلى المشفى برفقة خالاتي لتضع أخي الأصغر مهدي. ولم يمض وقتٌ طويل حتى سمعت صوت الزغاريد من مطبخ بيت جدي لأمي. كنا نشاركهم البيت ذاته.
كانت المرة الأولى التي أسمع وأرى فيها جدتي تهزج، مستحضرةً كل قوتها الجنوبية، وكل تراثها. ولم أحفظ من أهازيجها آنذاك سوى:
"أفرح يا أحميد جاك اللي بيه الهيبة"
وكان المقصود بـ"أحميد" هو أبي، السيد حميد، الذي لبّى نداء خالته وسافر على جناح السرعة من البصرة إلى بغداد ليشاركها أهازيجها ويذبح عقيقة للمولود الجديد.
عادت والدتي من المشفى، ولم تسمح الجدة لأيٍّ منا برؤية أخينا أيامًا، حتى سمحت لنا بمشاهدته من بعيد دون أن نلمسه. كنتُ أحدث نفسي بقرص خدوده الحمراء الطافحة، أو على الأقل أتأمل عينيه البنيتين.
قالت أمي لتجبر بخاطري:
"مريم، أول ما اجت للدنيا، قمر مثله، وأهدابها كانت واصلة لخدها."
لكن الجدة بادرتها:
"تروح له ستين فدوة."
لم يكف دعاء الجدة لمهدي وتحصينها إياه، والدعاء على كل من يقترب منه، حتى لو كانت ابنتها (أمي).
لم تسمح أن يخرج من المنزل إلا بعد ستة أشهر، تحت عباءتها، لتزوره الإمام الكاظم (عليه السلام)، رغم ثقل الطفل الممتلئ على يديها، وكانت قد دخلت في السبعين من عمرها.
لم تقبل أن يحمله غيرها. خرجت به خائفة، وعادت خائفة من أن تصيبه العين. تنشر أدعيتها وتحصنه بكل ما تحفظ وتعرف من آيات القرآن. أحبّته كما لو أنها لم تُنجب ثماني بنات وخمسة أولاد، ولم تربِّ العشرات من الأحفاد.
بدأ الطفل يأكل، فصامت هي فرحًا، وكأنها رأت الملائكة تأكل من مائدتها، وادّخرت كل أكلة تفرحه. بدأ يمشي، فبدأت هي تحيطه بيديها، ودموعها، وأهازيجها. تستيقظ ليلًا لتتفقده، ويستيقظ هو كما لو فقد الأُنس بصدر أمه، قائلًا:
"بيبي بخ"
مشيرًا إلى صوت تنفّسها وهي نائمة، طالبًا من أمي أن تأخذه إلى حضن الجدة.
تمتنع والدتي، فيبكي، فتصب الجدة جام غضبها على أمي:
"نومة من الجنة من ينام مهدي على يدي!"
"يمه، الطفل ثقيل على يدك!"
إن شاء الله تنشل إيدج، مالج غرض.
أحبّته بشكل لا يقبل جدالًا، ولا اعتراضًا، ولا حتى من أمي.
يومًا ما، سُكب ماء دافئ على أطراف غرّته فطفح جلده، فانهارت الجدة وقالت لأمي:
"حباية بيدج، حباية بقلبج، شلون تسهين عن الولد؟"
خافت أمي من تعلق الجدة بمهدي، لأنها بدورها متعلقة بجدتي.
وكانت تظن أنها ستُعمّر مئة سنة، وتربّي أولادنا، وكانت تقول:
"سأموت مطمئنة لأن أمي ستربيكم."
في نهاية شهر 11 من عام 2003، مرض مهدي بإنفلونزا غريبة لم نعرف إن كانت وبائية، ولم تفلح معها الأدوية.
لكن الجدة حسمت أمرها مع الحياة:
"لا حياة في حياة يمرض فيها مهدي."
أطلت من باب غرفة الضيوف بوجهها القمري، وثوبها القديفة البني المورّد، وجاكيتها الصوف، رافعةً يديها بتهديد:
"لا تظنين أعيش إذا صار بمهدي شيء."
بعد أيام، تعافى مهدي، ومرضت الجدة.
دخلت المشفى. الخبر جعل والدتي ترتدي جبتها الكحلية كالمجانين، وتحمل مهدي وتركض إلى المشفى. طافت حول سرير أمها بمهدي، وهي تقول لها:
"يمه، أنا أفتديك بروحي، أفتديك بمهدي."
لكن هذه المرة، الجدة لم تقوَ على الكلام لتقول لأمي "حباية بيدج بقلبج"،
قالت فقط:
"أنتِ وأهلج ترحين فدوة لمهدي. أنا عجوز، شلي بهالدنيا؟"
أشارت بيدها لأمي أن: "اسكتي."
فزاد انهيار أمي:
"يمه، أنا بعدني قوية، وأجيب خمسة، عشرة مثل مهدي، بس أنتِ منين أجيب مثلج، يمه؟ قومي!"
اضطرت خالتي لإخراج والدتي من غرفة الجدة رأفةً بالجميع، ومنعتها من زيارتها لأيام، حتى لا يتكرر ذات الموقف.
بعدها، سمعت والدتي بخبر تعرّض أمها لما يُسمى بـ"صحوة الموت"، لكنها فسّرتها على أنها "صحوة حياة"، وأن الله استجاب لافتدائها الجدة بمهدي.
طلبت الجدة ما تشتهيه من العصير. إلا أن أمي أعدّت لوالدتها حلاوة جزر، كانت تفكر بأخذ الطبق وتناوله بمعيّتها.
كانت تهتف:
"أمي عادت، أمي تشتهي الأكل!"
إلا أن الجدة أُخرجت من المشفى قبل أن تذهب لها أمي.
فقد دخلت بمرحلة سكرات الموت، وأذِن الطبيب بإخراجها لتقضي الدقائق الأخيرة من حياتها بين أولادها وأحفادها.
قبّلها مهدي، واستدار لأمي قائلًا:
"بيبي بخ."
نامت بيبي نومتها الأبدية، ولم تنم روحها عن مهدي.
في كل مرة يدخل بغيبوبة سكر، أو يخضع لعملية، تزور الجدة أمي في المنام وتعصب رأس مهدي. في آخر مرة، سهرت والدتي مع الفتى المريض، وهمدت عيناها بنوم، فرأت الجدة تعاتبها:
"نامي، فلا أستطيع زيارتكم إلا في المنام."
ركضت أمي كالأطفال وراء أمها:
"يمه، أخذيني وياج!"
فدفعتها وقالت:
"ومهدي، من له؟"
وقاطعتها أمي، فلم تزر مناماتها بعدها.
اضافةتعليق
التعليقات