سمراء فاتنة عيونها سوداء واسعتان، تسع الكون وما فيه، وشعرها الأسود الغجري المتناثر يغطي وجهها الدائري، حول وجهها الملائكي عدة خالات ناعمة.. تفتح عينيها بصعوبة، بعدما بدأ ضوء الصباح يتسلل الى غرفتها، الساعة السابعة والنصف قامت والنعاس يسحبها للسرير، بدأت العصافير تزقزق مرفرفة بأجنحتها في السماء، اخذت توظب سريرها، وما أن أكملت حتى وقفت على تلك النافذة الكبيرة التي تطل على شرفة البيت العربي حيث الجدران المزينة بنقوش ذهبية جميلة وتتوسط تلك الشرفة، نافورة مياه رائعة تشرب منها الطيور، الصبَّار الصامت، والياس، والورد الجوري.
حديقة كبيرة مليئة بأشجار السدر وسباط العنب، تفوح رائحة الياسمين وزهر البنفسج، ها هنا أجمل الزهور الفواحة، فهي تحمل بداخلها أبجدية وحروف عربية، توسطتها، ثم عادت النظر إلى غرفتها، السرير الكبير ذو الغطاء الزهري وتلك اللوحات الزيتية الكبيرة، دخلت نسمة هواء خاطفة الى بعض من خصلات شعرها السوداء الغجرية، اغمضت عيناها وسرحت مع الهواء ثم زفرت براحة، تفكر بعمق في مستقبلها المجهول، وعندما تركزت تلك الرائحة.. الياس، تزفر روحها مع نسمات الهواء يبدو على ملامحها السهر والإرهاق.
غيّرت أصيصها لثلاثة مرات وربما أربعة، لترتدي ثوبها الزهري واطلقت شعرها المبرم ونزلت درجات السلم سريعا لتصل الى غرفة المائدة، جرت مسرعة وقبّلت رأس ابيها المملوء بخصلات الشعر الأشيب، والقت التحية على امها.
قائلة بنبرة النعاس: صباح الخير..
مشت بخطوات صغيرة حتى وصلت لغرفة جدتها فتحتها وبدأت تحدثها،
قالت جدتها وابتسامتها الجميلة تظهر على وجهها الجميل المجعد: صباح النور يا حبيبتي.
على ذات الطاولة المستديرة جلست أمامها ما لذ وطاب، تسكب فنجان قهوة. وتصنت إلى الأخبار الصباحية الذي صوتها يكاد أن يسمعه الجيران، كانت شاردة الذهن،
وفجأة.. تسلل صوت شق طريقه إلى اذنها دونما استئذان، وهو سقوط مدينة عراقية بيد الإرهاب، كان صوت المذيع محملا بجرعات تلهب نار، فرنت إلى أبيها. فرأت في عينيه سحابة تمطر،
فقالت: ما هذه الدموع يا أبي التي اخذت تلوح في وجهك.!
قال: آه يا ابنتي إن قلبي يتمزق غيظا، آه كم أتمنى أن أمسك حجارة أرميها على من دخل أرضي. آه لكم أتـــــــوق لقتلهم وتطهير أرضي من رجسهم الخبيث.
أطفأت جهاز التلفاز وتركت فنجان قهوتها على الطاولة، بصوت مرتفع غاضب: ليست الحرب الوحيدة..
خرجت من غرفة المائدة، نحو المكتبة في الطابق السفلي، بعد ان احست بالضيق والملل لا لانها لم تجد من تتحدث معه ومن يشعر بها، تتزاحم بداخلها المشاعر والهموم. تفتش بين طيات الصور القديمة لتعود بذاكرتها قليلا إلى الوراء... ملأت رئتيها بالهواء على هيئة شهيق ثم تزفره ببطأ.. أمسكت بأطراف أناملها صورة، ابتسمت عينها قبل ثغرها، امسكتها بقوة، ظللت تمسك بها، حتى كادت أن تتمزق.
ارخت يدها وخبأتها بين اوراق الكتاب، مع غصن شجرة الياس، فمنذ سنوات بعيدة.. بعيدة جدًا منذ كانت الصور بالأبيض والأسود وهذه الصورة معها! احتفظت بها. قد تكون الصورة لشخص غريب؟
وقد يكون أقرب من العين؟
وممكن أن يكون غير ذلك؟
الغرباء عادة لا نحتفظ بصورهم،
ونتعمق في ملامحهم؟
من هو صاحب الصورة ؟
وفي ذلك الزمن الجميل أحبته، وضعت فيه من الأحلام الكثير، وأغمضت عينها في حكايته بأمان لكن الفارس كان صغيرا جدا، فكانت هذه أول صورة لهما في مدرج المدرسة، قلبها يصرخ، بصرخات ليست أصوات، صرخات لا يسمعها مخلوق. وكأنها تراتيل غجرية، قد تكون عاشقة !!
تمتلك من العشق ما يؤهلها لتصير شهرزاد، ولكن أي حبيب هذا وأي امرأة تلك.!
تعلو دقات قلبها المقدسة، في محراب المكتبة، من قبس صراخها اشتعلت تلك الغرفة العتيقة بالنور ومن تراتيلها ترقص الجدران.
تمسك شرشف معطفها وتجعله على جسدها كثوب العرس الابيض، وتطير به تحلق في سماء أحلامها، ارتطمت قدمها بالمنضدة ويسقط الفستان على الأرض، سقطت هي واحلامها، كسقوط الرعد في الأرض صخبا، عصبت قدمها بعصبة حمراء تناثرت الكتب والأوراق من حولها.
دقائق جميلة مرت بأجمل سنوات العمر، كبرت هي ولم تلتق به يوماً، بعد هذه الصورة رجعت إلى غرفتها عرجاء ارتميت على كرسي، أبحرت في الماضي تجتر الأحداث، استسلمت إلى موجة من الأوهام. تتدافع و تتزاحم بداخلها، بقيت على هذا الحال وكأنها حقيقة،
أيقظتها من خيالها صوت أمها، فانتفضت من شرودها وهرعت تعرج نحو المطبخ، كانت تقول: من يطرق جرس البيت؟ أمي، انها جارتهم " أم ناصر".
تخبرها جارتهم من عتبة الباب، بنبرة عالية.. هنالك عريس تقدم لي.
وقفت امها مع جيرانها تثرثر قليلاً عن العريس وماذا يملك، ومن أي عائلة، تثرثر عنه وعن عمله و شهادته. دون أن تسمع ردًا على ابنتها. في نهاية الحديث وافقت على زيارة أهل العريس في المساء،
شاء الليل أن يأتي بعد يوم حافل بالأحلام المؤجلة، الذي طرق بابها طالبا الزواج منها، بعد ماذا.. جاء يطرق الباب؟ بعد ما ذبل كل عودها، خلف النافذة.
بعد ان مر أجمل العمر؟
بعد ان توقف الفرح؟
بعد ان أصبح رجلا عسكريا؟!
دخلت تسلم على الضيوف، ارتبكت، وتعثرت الكلمات، سفكت عيونها من الأدمع ما سفكت. تنعى حظها الذي تنتظره عشر سنوات،...أحساس يملاها لتعبر بها عن اشتياقها عن لهفتها، عذراً يا زليخا، كنت أظن انك تبالغين في حبك، فمددت يدها لتقول للشيخ، نعم، ...نعم والله موافقة، وكم كانت شهرزاد تحسب ان عرسهم سيقام بعد إجازة خطيبها العسكرية اي خلال شهرين من الان، أسرعت بالنهوض نحو النافذة تحاكي حبيبها وتنظر إلى مكان بعيد.. نظراتها قاتلة وكلماتها كانت: انتظرتك كل ليلة، لعلك تعيد شبابي من جديد.
وأني لم اقضِ ليلة من دون أن اسامرك، تعذبت في حبك كثيراً.. كثيراً وتلوع حنيني وزاد اشتياقي إليك فتمنيت أن نتقابل، وتعانق أرواحنا السماء، في صحراء بلا جبال بلا أنهار، وأصبحت ترتعش من برودة يديها وجسدها، تمنت أن تكون قصتها كقصة زليخا. ولطالما بكت ليالي على حظها، تستلقى على سريرها وتضع كفها تحت وسادتها و تنزل دمعاتها على وسادتها و من ثم تغمض عينيها تنظر للقمر و ترى وجه حبيبها ثم فجأة ..... يصيبها البكاء و ثم تقرر ان تقفل النافذة و تعود الى النوم مرة اخرى.
و تحلم، حصان ابيض اللون، وعليه فارس أحلامها، يمسك يدها لتركب معه نحو أرض مقدسة، لا حرب ولاسلاح، لاهوية ولا ضمان، السلام، و الحب. تبقى أحلام مؤجلة يقبلها الخريف. ثم تستيقظ ووجهها يتعرق بشدة و تتنهد، ولكن سرعان ما تتسرب إليها قشعريرة، لتشعرها بالبرودة، بالغياب، بالجدران المتآكلة بفعل الرطوبة، وسنوات أمطرت فراقا وأثلجت حنينا تصرخ.. هل جاء شهريار.
وبصمت الليل الرهيب سمعت صوت صرير فتحة الباب.
وإذا بفارس أحلامها.. قفزت وركلت بأرجلها الغطاء الزهري، بعد أن أشعلت شمعة العرس..
تمسح بها على عينها لتستفيق من سباتها، وتعيد إلى الواقع وتبتلع فرحتها.
اضافةتعليق
التعليقات