بدأ الملل يتسلل إلى جوف رأسي وقلبي معًا، لا أعلم كيف صار وقررت أن أعتزل كل شيء ولا أخفيكم أني بدأت ألتمس الراحة بكل معانيها؛ بيد إني بعد فترة وجيزة ومن حين لآخر ضجرت وبدأ الفراغ يحيط بي ويخنقني بل يحدثني أيضًا وكأن له صوت ذا صدى يقول لي ويكرر: قد فاتك الكثير؛ هَلُمي قد فاتك الكثير!.
صرت أتخبط حول نفسي وأبحث عن ما ينقصني وكيف لي أن أعالج هذه الحالة الغريبة التي باتت تصيبني بالغثيان ونوبات كآبة رغم أني مسترخية لا أشكو سوءًا، ترى ما الذي أفتقده وأنا في فترة نقاهة كما أُسميها؟! يا للهول أشعر بأني مجنونة جائعة لإلتهام وجبات كبيرة من الكلمات وتواقة لصنع أطباق كتابة!.
لسنين طوال اعتدت المعاناة، وكنت أكتب كل يوم تقريبًا، ولم يمر عليّ أسبوع أو شهر دون قراءة كتاب, رواية, قصة, أو مقالة على الأقل قبل أن أبدأ مشوار الكتابة. أما الآن ومنذ ستين يومًا على ما أظن تغير الكثير وباتت مُعاناتي تحتضر وتلاشى معظمها؛ أخذت بنصيحة الجميع لي بأن أرتاح وأقلع عن عادة بذل الجهد الإضافي وأترك كل شيء خلفي وأدلل نفسي، واقتنعت أنني بحاجة لذلك وأصبحت أغلب أوقاتي أقضيها في بيتي، أهتم بأدق التفاصيل فيما يخص ذائقتي وأسرتي وراحتهم حصرا، وصرت أبتعد عن كل ما يزعجني ويؤذيني رويدًا رويداً حتى استأنست العزلة وتذوقت طعم السكينة..
وبالفعل بدأت صحتي الجسدية تتحسن وبعض جراحاتي شُفيّت تمامًا فقد تحقق جزءًا كبيرًا من حلمي البسيط الذي لا يستهان به وإني لأراه هبة عظيمة رغم بساطته! وما راح يأخذ بي نحو الخمول والكسل ذاك الفراغ الذي صنعته بنفسي لنفسي؛ فبعدما أنتهي من أعمالي المنزلية لا أكترث لممارسة أي نشاط آخر حتى إني لا أخرج ولا أشاهد التلفاز ولا أتصفح الانترنت ولا يهمني الاطلاع ومعرفة مايحدث حول العالم إلا قليلًا جدًا، حيث صرت أنام ما يقارب الاثناعشرة ساعة في اليوم وأكثر, أي نصف يومي أقضيه غارقة في أحلام لا أتذكرها وقت اليقظة!.
بعد هذه التجربة الغنية بالكثير؛ اكتشفت ما لا يستسيغ تصديقه أحد - بأن الأوجاع وحدها هي من تجعلنا يقظين شاعرين بقيمة الوقت, بقيمة الحياة! - وإنَّ كمية الألم والأحزان والمعاناة وحدها من تجعلنا نستشعر مرور ساعات يومنا منذ شروق الشمس حتى أفولها؛ هي وحدها من تجعلنا نقدم انجازًا ونصنع فخرًا نتوج به أرواحنا العليلة وقلوبنا الكسيرة؛ وحدها تجعلنا ندرك سر الحياة بتلك الدقائق التي نعدها في الانتظار وغيره وهي تنساب من بين أيدينا راحلة بتلك السرعة تأخذ بعضا منا معها، وكأننا أشبه بجزرة خروف معلقة وهيّ الجزار!.
هذا القلق والأرق وذاك النزيف لتلك الطعنات تحديدا ما يجعلنا نستثمر أيام عمرنا ولا نهدر من وقته ولو ثانية دون عمل وجهد حثيث قدر المستطاع؛ أي لابد له أن يُذكر في آخر الليل كي تنام ضمائرنا عنا! أجل صدقًا ما أقولُه ففي الآونة الأخيرة أدركت تمامًا أن الورثة المترفين ومن يعيشون سعداء على حساب غيرهم دون معاناة وتعب هم لا يبصرون على الأرجع ولا يستدلون عن أنفسهم بأنفسهم؛ بل ويتوهمون السعادة الزائفة التي ستكشف عن وجهها الحقيقي غالبًا بعد فوات الأوان!.
لأنهم وبكل بساطة وأنا أجزم بذلك, يضيّعون نصف عمرهم أو ثلاثة أرباعه بالسهر ليلًا والنوم في النهار؛ ويهدرون معظم أوقاتهم على أمور تافهة لا تستحق أصلا الالتفات إليها وليس لها أي داعٍ؛ حيث لاقيمة للوقت لديهم يبددون أيامهم وينثرون أعوامهم على أرض صحراء قاحلة لن تثمر يومًا, ظنًا بأن ما عندهم من ثمار ستغنيهم حتى آخر العمر؛ متناسين بأن الأيام تدور والزمان يغدر ولا شيء باقٍ على حاله سوى ما زرع في محله وسُقيَّ من أيدي زارعه فتجذر؛ من مشروع أسسه وفعل خير قام به وحُبُ قدمه وتضحية وايثار ومساندة وكل جميل معنوي سيحصد ثماره حتمًا عند أول مأزق يقع فيه.
لكن وبما أن المعني ولد وفي فمه ملعقة من ذهب, قد يُقيّم كل ما حوله ويسارع للفوز بالملذات وينسى ذاته المستنزفة بلا تقييم؛ تسيطر عليه أهوائه جاعلة إياه شخصية بليدة لاهية منغمسة في التمتع بما وجد أمامها دون تفكر!.
فلنتحدث عن النوم وهو سلطان كما يُقال من أجمل السلاطين وليس هناك من أحد يستطيع مقاومته اطلاقًا فهو مطلب الجميع ومعشوقهم المشتَرك، ولكنه يصبح الأجمل حينما نحصل على قسط منه بكل نزاهة بعد تعب وصبر لنيل ما نبتغي بسواعدنا؛ فتكون لذته أطيب وأكبر وذلك حينما نكتفي بقليل لذيذ منه كي نعود نشطين لإتمام ما نعمل عليه أو ما نود توسعته وربما نبدأ من جديد بصورة أفضل..
غير ذلك, فهو أشبه بوحش قبيح يلتهمنا ببطئ دون أن نشعر ونحن نراه ملاكًا؛ فإن النوم في غير وقته ومحله ولساعات طوال يسلبنا وجودنا ويجعل أحلامنا حبيسة المنام؛ تقل نسب تحقيقها على أرض الواقع وتتأخر كثيرًا في الحصول، وعلاوة على ذلك يدمن محب النوم هذه العادة ويتملكه الكسل كلما أراد النهوض غير مدرك بأنه يتآكل تدريجيًا على هذا النحو!.
يقول الامام علي عليه السلام: (الناس نيام إذا ماتو انتبهوا). وهنا يقصد الأمير النوم بتعدد أوجهه، فكل منا نائم عن أمرٍ جسيم في دنياه يتعلق بمصير آخرته؛ فنحن ما دمنا لاهين بأمور الدنيا المادية والسطحية لا نزال غافلين عن حقيقة وجودنا؛ فقد كان الامام السجاد سلام الله عليه قليل النوم ويقضي الليل متعبدًا يستجير من النار سائلًا حبيبه العفو والغفران وتجنب ارتكاب المعاصي وهو زين العابدين! فما بالكم بنا نحن العبيد الفقراء إلى الله؛ وأكثرنا غفَلَة قد لانعلم أن علينا الانتباه قبل فوات الفرص وترك "فيما بعد" لأن الندم لايجدي نفعًا!.
النوم بما تحتويه الكلمة من معنى, يأكل نصف العمر ولا فائدة منه غير ما نحتاج إليه عن حق وحقيقة، فلا تأخذ دائمًا بنصيحة الآخرين لك بالنوم والراحة مهما كانوا فاهمين ومحقين، فكثير من المفاهيم لدينا عرفناها بصورة خاطئة لأننا توارثنا تعلم المفاهيم السائدة ولم نجرب يومًا تحليلها بصورة صحيحة والبحث عن فحواها المشوه!.
فما تحمله لنا الأيام من مواقف وتجارب, قد تثبت لنا العكس؛ فبدل ترك المشكلة تُحل بمرور الأيام يجب علينا حلها لحظة وقوعها متجنبين خسارات تترتب على هذا الوقت الذي يمضي، وبدل تأجيل عمل الصباح إلى المساء يجب علينا انجازه في وقته كي لا نقع موَبخين نادمين نتيجة الكسل, وعض الأصابع لا يأتينا بغير الألم!.
أحيانًا هي التجارب من تأتي إلينا لتنير بصيرتنا، وأحيانا أخرى علينا ولا بد لنا التمعن والتفكر قبل سلك الدرب الذي سلكه الكثيرون قبلنا، فليس الجميع يشبهون بعضهم وليس كل من يفشل سيعلن عن ذلك فقط لينبهك بل هناك من يصور لك فشله نجاح باهر كي يراك تسقط مترديًا كما سقط هو بل ويضحك عليك ويشمت فيك منتقمًا!.
علينا التفكر قبل كل شيء نود خوضه وأن لا نعتمد على تجارب الآخرين مهما كانت نسب نجاحها عالية، لأن الزمان والمكان يختلفان من وقت لآخر بل وحتى النظريات المعروفة والتجارب المثبتة باتت ركيكة وغير مجدية في زمن يعج بتطور عجيب يفتح أمامنا بوابة كبيرة نحو الجهاد في التيه!.
اضافةتعليق
التعليقات