دخل الأستاذ إلى شعبة تدريسه ليستقبله أحد الطلبة سائلا ما الدليل على وجود الله ولماذا يجب أن نعبده، ولماذا نعبد إلها لم نره...
تساؤلات عديدة تهاجم الشباب والمراهقين عبر مواقع التواصل أو اليوتيوب وهدفها التشكيك وتجريدهم من العقيدة الحقة التي تنادي بها الفطرة السليمة.
معظمنا شاهد الشجرة الفارعة هل تأملنا في سبب قوتها وثباتها وتماسكها؟
الجذور القوية التي تنتشر في التربة هي التي تمنحها التماسك والثبات وعدم الاهتزاز والتمايل مع الرياح والأعاصير التي تواجهها، فالتربية هي التي تغذي الجذور وتثبتها وهي التي تجعل الشاب أو الفرد لا ينحرف ولا ينجرف يمينا وشمالا مهما قويت تلك الأعاصير.
فالعقيدة هي الجذر المتفرع للإنسان الواعي التي تؤدي دورها بترسيخ وجوده على أرض الواقع إضافة إلى ظهور انعكاسها على هذا الوجود.
والتربية العقائدية هي التربية على الثوابت التي تتفرع من الأصول الدينية الخمسة وهي بمثابة رسم الخطوط الحمراء للفرد وعدم تخطيها وتجاهلها في أشد الظروف والشدائد.
لماذا نحتاج إلى العقائد؟
العقائد هي بمثابة البنى التحتية التي تحول دون الانهيار الخارجي اضافة إلى ذلك تعطي البوصلة الحقيقية لتوجه الانسان وتمنعه من التيه والضياع، فهي من جانب توثق ارتباطنا بالله عزوجل وبأهل البيت (عليهم السلام) وهما الركن المعنوي الذي يقوّم التوازن الروحي والجسدي إضافة إلى الغاية الوجودية من الانسان.
ومن جانب آخر تحرر الانسان من عدة جوانب، فمن جهة تحرره من شهوات نفسه والتي تكون بمثابة اللجام لها عن الفساد والافساد، فعن الامام علي (عليه السلام): (وأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِن الشَّهَوَاتِ) "من رسالته الى مالك الأشتر" ، ومن جهة أخرى تحرره من الأنظمة السياسية الاستبدادية التي تتضمن حالات تأليه البشر بشتى مقاماتهم، فعن الامام علي (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ آدَمَ لَمْ يَلِدْ عَبْداً وَ لَا أَمَةً وَ إِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ) " الكافي ج8" ، ومن جهة ثالثة تحرره من المخاوف التي تستولي على روح الانسان وتمنعه من أن يكمل رسالته وهو ما يدعى بالخوف المذموم حيث يقول تعالى: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ) (الأحزاب 16)
الصحة العقائدية
يملك البشر خيار التقليد في كل المسائل إلا في العقائد لأنها مسألة جبلت عليها فطرة الإنسان، لذا تحتاج إلى المطالعة والبحث والتدقيق والتأمل والتفكر لذلك كان الناس قديماً يلجأون إلى مجالس أهل البيت (عليهم السلام) مباشرة ليلمسوا مواضع النور الإلهي في نفوسهم...
أما في زمن الغيبة فقد أوكل الأئمة الأطهار عليهم السلام) أمر الشيعة إلى العلماء الأفاضل الذين يملكون من الحنكة ما يمكنها قيادة الأمة إلى عقيدة سليمة أصلها من المعصوم ومرساها إلى البصيرة المتكاملة: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا)، وكذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال لكميل: (يَا كُمَيْلُ لَا تَأْخُذْ إِلَّا عَنَّا تَكُنْ مِنَّا)، كالذي يريد أن يشرب الماء إما أن يأخذه من النهر الجاري المليء بالأوبئة والميكروبات أو من المنبع الرئيسي الصافي.
لذلك اقتضت سلامة التثبيت العقائدي الميل إلى مصادر أهل البيت (عليهم السلام) ومن ثم الانطلاق إلى الآفاق المعرفية المختلفة وهو يضمن استقامة بوصلته العقائدية.
شبهة وجواب
تثار بعض التساؤلات منها لماذا نحتاج إلى العقائد إن صحّت الأعمال؟
فلنفرض أن كأس ماء عُرض على شخص قد أخذ الظمأ منهُ مأخذاً ولكنّ الماء قد وضع السم في جزءٌ منه.. فإن العاقل لن يشرب من هذا الكأس بل حيث سيجبره عقله على الفحص والمتابعة لئلا يقع في التهلكة ويصاب جسمه بالضرر والأذى، فإن كان العقل يستفيض ويحتاط في السؤال في موضع السم المادي فكيف به في السموم الفكرية والعقدية التي تأخذ معها في كل هجمة عدداً لا بأس به من العقول العاطلة عن العمل لتغير بوصلة مسيرتهم ليصانوا، وهنا تحديداً يأتي دور العقيدة في كشف الغمامة السوداء عن الأبصار وبيان الحقائق.
التربية العقدية أو التربية على الثوابت في المنهج العلوي
وقد أولى الإمام (عليه السلام) أهمية قصوى في رسالته إلى ابنه الحسن بحاضرين (نهج البلاغة رسالة 31) لهذا الجانب حيث خاطب فطرته السليمة التي تؤمن بالتوحيد حيث قال:
واعْلَمْ يَا بُنَيَّ - أَنَّه لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه - ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِه وسُلْطَانِه - ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه - ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه - لَا يُضَادُّه فِي مُلْكِه أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً ولَمْ يَزَلْ - أَوَّلٌ قَبْلَ الأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ - وآخِرٌ بَعْدَ الأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ - عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُه بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ.
كما طرح الموضع الأكثر إشكالاً في البيئة الداخلية والخارجية للإنسان وهو "احتمالية الشراكة في الربوبية" وهو يعتبر ردا على من يؤمن بالثنوية وغيرهم من غير الموحدين.
فمن خلال ذلك كشف العلّة المخفية وفنّدها بتوارد الأدلة العقلية وهي رؤية الآثار، فكما نرى منتجا لكل شركة ومصنع فكذلك لابد من رؤية انجازات الشريك الآخر لله سبحانه وتعالى إن وجد، وكذلك معرفة الصفات والأفعال لذلك الشريك وهي التي تعتبر بحد ذاتها اثبات لوحدانية الله، وهي دعوة واضحة وملحّة إلى ترك التفكير في ذات الله والتوجه إلى آلائه ونعمائه التي أغرقنا فيها.
وفي كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام) ما الدليل على أن اللّه واحد، قال: اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال اللّه عزّ و جل (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
فعند تطبيق هذه الآية الشريفة على بيئة صغيرة كبيئة العمل واحتمالية تعدد مدراءه فهذا يكشف مدى الفوضى التي ستحلُّ على هذه البيئة فكيف بالكون العظيم.
وعن الفضل بن شاذان قال: سأل رجل من الثنوية (الذين يؤمنون ان للكون الهين) أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) وأنا حاضر فقال له: إني أقول أن صانع العالم اثنان فما الدليل على أنه واحد؟ فقال (عليه السّلام): قولك اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك للواحد، فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه. (الفصول المهمة في أصول الأئمة - ج ١ )
فإدعاء الرب الثاني ما هو إلا إثباتٌ لوجود الأول بكل صفاته لأنه يبقى ادعاء خال من البراهين والأدلة.
وفي مقطع آخر يشير إلى القيادة الصحيحة التي توصل الانسان إلى بر الأمان وإلى الهدف المنشود:
اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللَّه سُبْحَانَه - كَمَا أَنْبَأَ عَنْه الرَّسُولُ (صلى الله عليه واله) - فَارْضَ بِه رَائِداً وإِلَى النَّجَاةِ قَائِداً.
القيادة النبوية هي التي توصلنا إلى الله تعالى، فكيف وقد ترجم الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه الأوامر الإلهية على أرض الواقع لتكون منهجا واضحا وفريدا من نوعه ليدعو إلى الصلاح والنجاح الدنيوي والأخروي.
والفرق بين الرائد والقائد أن الرائد هو ذو منهج وفكر وتميز والمتقدم عن الآخرين أما القائد هو الذي يقوم بإدارة الناس وتوجيههم باتجاه معين للوصول إلى الهدف.
فمعرفة مفردات وتفاصيل هذه القيادة كالقيادة العقدية والفكرية والأخلاقية و.. هي من الثوابت التي يتم ادخالها في الأصول التربوية للأبناء من أجل تمييز القيادة الحقيقية الصالحة من القيادات المزيفة في حياتهم اليومية، ويبدأ هذا الأمر من نعومة الأظفار ليألف ويتمسك بهذه القيادة كنموذج عملي يدخلها في تفاصيل حياته.
فكم من الآباء والمربين يهتمون بهذا الأمر؟ وكم من الوقت يمنحونه لمن يربوهم في هذا المجال؟
قد يعاني الكثير من الآباء عدم القابلية على مواجهة الأسئلة العقدية لأبناءهم إما لجهلهم بمواطن الصحة في الجواب بحد ذاته أو لضعف عقائدهم، لذلك على الكثير من الآباء والأمهات والمربين أن يثبتوا العقيدة الصحيحة في ذواتهم أولا ليكونوا مستعدين فيما بعد لتلك المواقف، اضافة إلى التسلح والتزود بالمعرفة لتفاصيل هذه العقيدة ومطالعة الكتب المختصة ككتاب حق اليقين وتوحيد المفضل، لأن الثبات لدى المربي أو الوالدين هو عامل مساعد في التثبيت لدى الأبناء.
اضافةتعليق
التعليقات