المُساءلة سُنة عامة قررها جل وعلا بقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الحجر/ 92-93
أي سنًسأل يوم القيامة كل مَن أرسلنا لهدايته رسولاً، بل وسنسأل المرسلين كذلك (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الأعراف/ 6.
فالكل مسؤولٌ قادةً وأتباعاً ورسلاً ومرسلين غاية ما في الأمر اختلاف السؤال - ولا يخفى على لبيب أن سؤاله لعامة الناس سؤال عالِم عارف وذلك لإثبات الحجة عليهم ليس إلا، وأما سؤاله للرسل يوضحه حديث مولانا أمير المؤمنين (ع): (فيقوم الرسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أممهم فأُخبروا أنهم قد أدّوا ذلك).
والمتتبع للآيات المباركات يقرأ في سورة الرحمن/ 39 أمراً متناقضاً لما ورد في الآيات الآنفة الذكر - طبعاً للوهلة الأولى - إذ تقول الآية (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) فكيف يقسم الله جل وعلا بسؤالهم أجمعين وفي آية أخرى ينفي السؤال أصلاً!، لا تناقض مع التفكر والتدبر فيها.
فمثله ورد في آيات كثيرة منها ما تحدثت عن الخمر والميسر حكمهما يقول جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ * وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) المائدة/ 90 ، وفي آية أخرى يقول عزّ مَن قائل: (يَسأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...) البقرة/ 219 ، وهذا التناقض الوارد هنا حول حكم الخمر والميسر بعناوينه المختلفة يُحَل إذا تتبعنا أسباب النزول. وكذلك الإمعان في آيات المُساءلة كفيل بأن يكشف كل إبهام عنها، فإنه يُستفاد من مجموعها ولِمَا ورد في الخبر أن ذلك اليوم - يوم القيامة - يوم المحاكمة الكبرى يوم طويل، على الإنسان اجتياز محطاته ومواقفه المتعددة متوقفاً عند كل محطة مدة زمنية، ففي أُولى محطاته يُتَوَقّفُ للسؤال لقوله جل وعلا: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) الصافات/ 24، بدقة متناهية يُسأل الإنسان عن كل أقواله وأفعاله وحتى سكناته، وعندما يرى الإنسان إن كتابه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها يسلك سبيل الدفاع والجدل ظناً منه بإمكانية الإفلات بإخفاء الحقائق وإنكارها لقوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) النحل /111 ، فإنه وبعد هذا الإنكار منها يأمر الله جل وعلا بالختم على الأفواه (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِم..) يس /65 و يأمر الشهود بالشهادة.
ويا لها من محكمة عجيبة يكون فيها الشهود نفسَي أعضاء الإنسان وجوارحه التي تحتفظ بآثار أعماله في نفسها كشاهد حي لا يُرَد ويروي أعماله بدقة متناهية (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النور /24، أعضاءً تتخلى عن صاحبها وعن الإمتثال له وتستسلم لأمره جل وعلا وتخبره بذلك بعد معاقبتها، وهذا ما يصوره لنا ذلك المشهد القرآني التالي: (حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فصلت/ 20-21 ،هنا نفهم معنى قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يُسْـَٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ ) الرحمن/ 39 "أي لا يُسأل الإنسان نفسه، بل السؤال موجّه لأعضاءه وجوارحه للأسباب المذكورة وفي المحطة التي بعدها يُرفع الختم مِن على الأفواه فيسألون ويعترفون عند ذلك بعد مشاهدة الحقائق التي انكشفت في ضوء شهادة الجوارح كالمجرم الذي يرى بُدّاً من الإعتراف بجرمه عند مشاهدة الأدلة العينية .
وقد احتمل بعض المفسرين في تفسير الآيات النافية للسؤال إشارة إلى نفي المسألة الشفاهية، والآيات المثبتة للسؤال إشارة إلى السؤال مِن الجوارح وهي تجيب بلسان الحال - لبقاء آثار الأقوال والأفعال عليها - وهذا ما يسمى بـ "الشهادة التكوينية" وهي مِن أوضح الشهادات وأجلاها إذ لا مجال لإنكارها، كما في اصفرار الوجه الذي يعتبر عادة دليلاً على الخوف أو المرض، واحمراره دليلاً على الغضب أو الخجل، وإطلاق النطق على هذا المعنى يكون مقبولاً أيضاً وبهذه الصور يُرفع التنافي بين هاتين الطائفتين مِن الآيات المباركات .
وآخر مانريد قوله بخصوص تكلّم الأعضاء هو إن ما ذُكر خاص بالمجرمين (يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَٰهُمْ..) الرحمن /41 فهناك وجوه مسودة مكفهرة غبراء تحكي قصة كفرها وعصيانها (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) عبس/ 40 ، وهناك وجوه تتطفّح بالبشر والنور تحكي قضية إيمانها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍۢ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَة) عبس/ 38-39، وعلى غراره ما ذكره الإمام الباقر -ع-: (ليست تشهدُ الجوارح على مؤمن، إنما تشهدُ على مَن حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن المؤمن فيُعطى كتابه بيمينه لقوله جل وعلا:
(فَمَنْ أُوتِىَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَٰبَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الإسراء/ 71 .
اضافةتعليق
التعليقات