بعدما تتابعت الرسائل والكتب من الكوفيين على الإمام الحسين (عليه السلام ) تتبع بعضها بعضا يقول المؤرخون اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب (الوافي في المسألة الشرقية 148) وهي تحثه على القدوم إليهم لينقذهم من جور الأمويين وظلمهم ورأى الإمام الواجب الشرعي يدعوه للقيام بهذه المهمة الخطيرة التي لا يقوم بها احد سواه فاستجاب مع علمه بنفسيات الكوفيين واتجاهاتهم إلا أن الواجب يلزمه بذلك.
تجلت حكمة تعامل ريحانة الرسول (صلى الله عليه واله) في هذا الظرف العصيب لعلاج أحرج مرحلة قائمة, في كونه لم يذهب هو بنفسه إليهم ولم يجب الكوفيين جوابا نهائيا.. وتجلت حنكته السياسية بتروّية وهدوء تخطيه للطريق الطويل, دون تعجل أو إسراع، اذ راح ينظر بمسألة تمثيل شخصه من قبل احد رجاله تحقيقا وتمهيدا لمطالب المظلومين. ويكون اهلا لهذه المسؤولية العظيمة.
لذللك اختار مسلم بن عقيل عليه السلام ليكون نائبا وسفيرا له.. لأنه كان اهلا لهذه المهمة الصعبة.
من هو حامل رسائل سبط الرسول (ص) ونائبه:
مسلم بن عقيل الهاشمي ابن ابي طالب عم الرسول..
وكان من أرجل ولد عقيل وأشجعهم، وقد اشترك في معركة صفين مع أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام).
لقد ذكر الإمام علي عليه السلام عن حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعقيل، قائلاً: ((يا رسول الله إنك لتحب عقيلاً؟)).
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إي والله! إني لأحبه حبين، حباً له، وحباً لحبِّ أبي طالب له، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون)).
ثم بكى الحبيب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حتى جرت دموعه على صدره، ثم قال: ((إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي)).
جاء في كتاب (مبعوث الحسين عليه السلام): ((الشجاعة الخارقة المشهودة لمسلم كسمة من أشهر سماته، لم تأتِ من التدريبات البدنية فحسب، وإنما جاءت أيضاً من تعاطيه العلم والعرفان في مدرسةٍ وفقت بنجاح بين دروسها، مدرسة أفلحت بمعلمين غير عاديين وحظيت بأساتذة غير ضعفاء ولا نظريين فمن هم هؤلاء الذين علّموه ودرّسوه؟! إنهم معلّمو الأمة وأساتذة الإنسانية الذين كان سيد الكائنات وأشرف البشرية قد خصّهم بعلمه وحكمته دون غيرهم من الناس، إنهم: النبي ( ص ) وابن عمّه.
وثيقة سفارته:
لقد زود الإمام عليه السلام سفيره بوثيقة عهد فيها إلى تعيينه نائبا عنه وقد رويت بصور متعددة منها ما رواه الطبري وجاء فيها:
(من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين هانئا وسعيدا قدما بكتبكم وكان آخر من قدم عليَّ من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم انه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق).
(وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته يكتب بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب انه قد اجتمع رأي ملأكم وذوو الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم وقرأت من كتبكم أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله والسلام).
مكانة مسلم عند الحسين
وقد ارتقى مسلم الشهيد أعلى سلّم الكمال، وكان بحق الثقة، فهو لم يتلكأ لحظة في أداء واجبه، ولم يساوم السلطة في الكوفة حتى في السلام.
ومنذ وصوله إلى الكوفة راحَ يجمع الأنصار، ويأخذ البَيعة للإمام الحسين (عليه السلام)، ويوضِّح أهداف الحركة الحسينية، ويشرح أهداف الثورة لزعماء الكوفة ورجالاتها.
فأعلَنَت ولاءَها للإمام الحسين (عليه السلام)، وعلى أثر تلك الأجواء المشحونة، كتب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليهما السلام) يَحثُّه بالمسير والقدوم إلى الكوفة.
فتسلَّم الإمام الحسين (عليه السلام) رسالة مسلم بن عقيل وتقريره، عن الأوضاع والظروف السياسية، واتجاه الرأي العام.
وقد كانت عيون العملاء والخونة مترصدة لحركات مسلم بن عقيل وكان ما كتبه عملاء الحكم الأموي عن تحركه:
أرسل العملاء إلى يزيد رسائل تخبره عن مجيء مسلم (عليه السلام) منها: (أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدِم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً، ينفّذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يَتَضَعَّف).
إرسال ابن زياد إلى الكوفة:
كتب يزيد بن معاوية رسالة إلى واليه في البصرة، عبيد الله بن زياد، يطلب منه أن يذهب إلى الكوفة، ليسيطر على الوضع فيها، ويقف أمام مسلم (عليه السلام) وتحرّكاته.
ومنذ وصول ابن زياد إلى قصر الإمارة في الكوفة، أخذ يتهدّد ويتوعّد المعارضين والرافضين لحكومة يزيد.
خروجه من دار المختار:
لمّا سمع مسلم (عليه السلام) بوصول ابن زياد، وما توعّد به، خرج من دار المختار سرّاً إلى دار هاني بن عروة ليستقر بها، ولكن جواسيس ابن زياد عرفوا بمكانه، فأمر ابن زياد بإلقاء القبض على هاني بن عروة وسجنه.
إعلانه الثورة على ابن زياد:
لمّا بلغ خبر إلقاء القبض على هاني بن عروة إلى مسلم، أمر (عليه السلام) أن ينادى في الناس: فاجتمع الناس في مسجد الكوفة.
فلمّا رأى ابن زياد ذلك، دعا جماعة من رؤساء القبائل، وأمرهم أن يسيروا في الكوفة، ويخذلوا الناس عن مسلم، ويعلموهم بوصول الجند من الشام.
فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرّقون، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وزوجها وتقول: انصرف الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول له: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر؟! فيذهب به فينصرف، فما زالوا يتفرّقون حتّى أمسى مسلم وحيداً، ليس معه أحداً يدلّه على الطريق، فمضى على وجهه في أزقة الكوفة، حتّى انتهى إلى باب امرأة يقال لها: طوعة، وهي على باب دارها تنتظر ولداً لها، فسلّم عليها وقال: يا أمة الله أسقيني ماء، فسقته وجلس.
فقالت: يا عبد الله، قم فاذهب إلى أهلك؟ فقال: يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّي أكافئك بعد اليوم؟ فقالت: ومن أنت؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، فأدخلته إلى دارها. وكان لهذه الأمراة ابنا ًعاقاً، وعلمَ أن هنالك جائزة نقدية في حالة الأبلاغ عن مكان مسلم بن عقيل (عليه السلام). لذلك اوشى بمكانه لأبن زياد ليأخذ مكافأته.
مقاتلته لجيش ابن زياد:
وفي الصباح عرف ابن زياد مكان مسلم (عليه السلام)، فأرسل جماعة لإلقاء القبض عليه، ولكن مسلم أخذ يقاتلهم قتال الأبطال، وهو يقول:
أقسمت لا أقتل إلاّ حرّا* إنّي رأيت الموت شيئاً نكرا
كلّ امرئ يوماً ملاق شرّا* أخاف أن أكذب أو أغرا
حتّى أثخن بالجراحات، فألقوا عليه القبض، وأخذوه أسيراً إلى ابن زياد.
دخوله على ابن زياد:
أُدخل مسلم (عليه السلام) على ابن زياد، فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلاً، ومسلم (عليه السلام) لا يكلّمه.
ثمّ قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه، ثمّ أتبعوه جسده، فأخذه بكر بن حمران الأحمري ليقتله، ومسلم يكبّر الله ويستغفره، ويصلّي على النبي وآله ويقول: (اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا).
ثمّ أمر ابن زياد بقتل هاني بن عروة فقتل، وجرّت جثتا مسلم وهاني بحبلين في الأسواق.
شهادته:
استشهد مسلم (عليه السلام) في التاسع من ذي الحجّة 60 هـ، ودفن في الكوفة،
ما نظمه الشعراء في مظلوميته:
قال عبد الله بن الزبير الأسدي:
إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري* إلى هاني بالسوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشم السيف وجهه* وآخر يهوي من طمار قتيل
ترى جسداً قد غيّر الموت لونه* ونضح دم قد سال كلّ مسيل.
اضافةتعليق
التعليقات