يعتبر الامام الباقر المؤسس للثورة العلمية الشيعية الكبرى التي بلغت ذروتها في زمن سادس أئمة الشيعة.
اعترف بشهرة الإمام الباقر العلمية والدينية علماء أهل السنة، فيقول ابن حجر الهيتمي في صواعقه: أبو جعفر محمد الباقر سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبئاتها، ومكامنها فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم، وجامعه، وشاهر علمه.
عمّر الإمام أوقاته بطاعة الله، وورد أنه كان يحظى بمراتب عالية في مقامات العارفين.
لقد امتازت السنوات ما بين 94 إلى 114 هـ. بظهور كثير من المدارس الفقهية وهي أكثر فترة اشتهر فيها نقل الحديث وانتشاره في التفسير، وكل ذلك بسبب ضعف الدولة الأموية والنزاع الحاصل بين زعماء الدولة للسيطرة على السلطة، وقد برز في تلك الفترة جمع من العلماء بذلوا جهداً واسعاً في رواية الحديث والإفتاء أمثال الزهري ومكحول وهشام بن عروة... وغيرهم، كما ظهرت في تلك الفترة بعض الفرق مثل الخوارج والمرجئة والكيسانية والغلاة، وبدأت بنشر وإشاعة عقائدها بين الناس.
لقد قاد الإمام الباقر في تلك الحقبة الزمنية حركة علمية واسعة استمرت حتى بلغت ذروتها في إمامة ابنه الإمام الصادق، فقد حصل بعد ظهور الإمام الباقر تقدّم واسع في هذا الصعيد، وظهرت حركة علمية ثقافية جديرة بالإكبار في أوساط الشيعة كسرت حاجز التقية إلى حدّ ما، وأزالت حالة الانحسار الذي مني به الفكر الشيعي في دوائر خاصة، ففي ذلك الوقت بدأ الشيعة بتدوين علومهم الإسلامية كالفقه والتفسير والأخلاق و... وقد بلغت من الوفرة حدّاً لو قورن بما نقل عن أبناء الحسن والحسين قبله لكان ما نقل لا يساوي معشار ما نقل عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام.
لقد ردّ الإمام الباقر استدلال أصحاب القياس، كما اتّخذ موقفاً شديداً مقابل سائر الفرق الإسلامية المنحرفة، وحاول – جاهداً - بهذا الموقف أن يضع حدّاً فاصلاً بين عقائد أهل البيت الصحيحة في الأصعدة المختلفة، وبين عقائد سائر الفرق، فقد كان يقول عن الخوارج ما نصّه: "إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم إن الدين أوسع من ذلك".
لقد كان ديدن العلماء الوقوف بتواضع وخضوع قل نظيره حين طلبهم العلم والتتلمذ عند الإمام الباقر ، فعن عبد الله بن عطاء المكي قال: "ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقد رأيت الحكم بن عيينة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه".
لم تكن شهرة الإمام الباقر العلمية مقتصرة على أهل الحجاز، بل عمّت العراق وخراسان بشكل واسع، حيث يقول الراوي: رأيت أهل خراسان التفّوا حوله حلقات يسألونه عمّا أشكل عليهم.
ونُشير تباعاً وباختصار إلى ميراث الإمام العلمي في الفروع المختلفة:
التفسير
لقد خصّص الإمام الباقر جانباً كبيراً من وقته لتفسير القرآن، حيث تناول فيه جميع شؤونه، وقد أخذ عنه علماء التفسير - على اختلاف آرائهم وميولهم - الشيء الكثير- وقد قيل أن للإمام الباقر كتاباً في تفسير القرآن ذكره محمد بن إسحاق النديم في كتابه الفهرست.
وقد حصر الإمام أبو جعفر معرفة الكتاب العزيز بـأهل البيت، فهم الذين يعرفون محكمه ومتشابهه والناسخ من المنسوخ، وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله: «إنّه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف إلى وجوه".
الحديث
لقد أولى الإمام أبو جعفر المزيد من اهتمامه للحديث الوارد عن جدّه رسول الله وعن آبائه الأئمة الطيبين، وقد روى عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث، وأبان بن تغلب مجموعة كبيرة، كما روى عنه غيرهما من أعلام أصحابه طائفة كبيرة من الأخبار.
والشيء المهم أنّ الإمام أبا جعفر قد اهتمّ بفهم الحديث والوقوف على معطياته، وقد جعل المقياس في فضل الراوي هو فهمه للحديث ومعرفة مضامينه، فمثلاً يُروى عنه قوله عليه السلام: اعرف منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم، فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان".
علم الكلام
إنّ عصر الإمام الباقر نظراً إلى إتاحة الفرصة بسبب قلة سيطرة السلطة الحاكمة وفّر الفرصة، وأتاح المجال لظهور عقائد وأفكار مختلفة مما أدّى إلى إيجاد وانتشار أفكار منحرفة في المجتمع، فكان على الإمام في هذه الظروف بيان عقائد الشيعة الأصيلة ومجابهة العقائد الباطلة والردّ على الشّبهات المطروحة.
وعليه كانت بحوث الإمام الكلامية التي كان يطرحها ناظرة لهذه الأمور، منها: عجز العقول عن إدراك حقيقة الله، وأزلية واجب الوجوب، ووجوب طاعة الإمام.
وقد ترك لنا الإمام إرثاً كبيراً في مجالي الفقه والتأريخ.
تصدي الإمام للإسرائيليات
من الفئات التي كانت موجودة آنذاك في المجتمع الإسلامي وكان لها تأثير عميق في ثقافة المجتمع ذلك الوقت هم اليهود، فقد انتشر في المجتمع الإسلامي آنذاك مجموعة من أحبار اليهود الذين تظاهروا باعتناق الإسلام ومجموعة أخرى لازالوا على الديانة اليهودية، وقد تصدّوا للمرجعية العلمية لطبقة من بسطاء المجتمع الإسلامي.
ومن هنا برزت ضرورة الوقوف أمام اليهود وإيحاءاتهم في الثقافة الإسلامية السيئة، وتكذيب الأحاديث المجعولة من قبلهم عن أنبياء الله وبعض ما ينقلوه مما يشوّه سمعة الأنبياء، وقد تصدى الإمام لهم بقوة وبشكل جيد يكشف عن تعالي الإسلام وهيمنة الفكر الإسلامي على مثل هؤلاء المنحرفين ومع تلك الفرق الضالة. وقد أشار زرارة إلى هذه القضية بقوله:
"كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر، وهو محتبٍ مستقبل القبلة، فقال: أما أن النظر إليها عبادة. فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر: إنّ كعب الأحبار كان يقول: إنّ الكعبة تسجد لـبيت المقدس في كل غداة.
فقال له أبو جعفر: فما تقول فيما قال كعب؟
قال: صدق القول ما قال كعب.
فقال له أبو جعفر: كذبت، وكذب كعب الأحبار معك، وغضب..
ثم قال: ما خلق الله عزّ وجلّ بقعة في الأرض أحبّ إليه منها...
الإمام الباقر على لسان الفقهاء
إنّ شخصية الإمام الباقر لم تكن الفريدة من نوعها في رأي الشيعة الإمامية فحسب، بل إنّ علماء أهل السنة أيضاً يعتبرونه فريداً من نوعه. فيقول ابن حجر الهيتمي:
"أبو جعفر محمد الباقر، سمي بذلك من بقر الأرض أي شقّها، وأثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه، ورافعه... عمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة ..." .
وتحدّث عبد الله بن عطاء عن إكبار العلماء وتعظيمهم للإمام الباقر وتواضعهم له، وهو من الشخصيات البارزة والعلماء العظام ما قوله: "ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي لتواضعهم له ".
أما الذهبي فقد كتب في وصف الإمام الباقر قائلاً: «كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤود والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلاً للخلافة».
اضافةتعليق
التعليقات