أُتّهم الشیعة قدیماً وحدیثاً بسبّ الصحابة ولعنهم، وجرت علیهم بسبب هذه التهمة محن وآلام کثیرة، بعدما حُكم علیهم بالكفر.
مفهوم اللعن والفرق بینه وبین السبّ والشتم:
في ضوء اللّغة:
قال الراغب الاصفهاني: (اللعن: الطرد والإبعاد علی سبیل السخط، و ذلك من الله تعالی في الآخرة عقوبة؛ وفي الدنیا انقطاع من قبول الرحمة والتوفیق، ومن الإنسان دعاء علی غیره).
وقال الطریحي: (اللعن: الطرد من الرحمة... وکانت العرب إذا تمرّد الرجل منهم أبعدوه منهم وطردوه لئلّا تلحقهم جرائره، فیقال: لعن بني فلان...).
وقال ابن الأثیر في النهایة: (أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السبّ و الدعاء).
وعلی هذا الجوهري في صحاحه أیضاً.
هذا هو المفهوم اللغوي للَّعن، أما السبّ، فقال ابن الأثیر: (السبّ: الشتم).
وخلاصة الأمر أن اللّعن: إن کان من الله سبحانه معناه الطرد من الرحمة، وإن کان من الناس فمعناه الدعاء بالطرد، و بالتالي فهو شيء غیر السب والشتم اللّذین یعنیان الكلام القبیح المستخدم في الذم والتنقیص.
في ضوء القرآن الكریم:
وکما فرّقت اللغة بین اللعن وبین السب والشتم، فرّق القرآن بینهما أیضاً، حیث نجده قد استخدم مادة (لعن) سبعاً وثلاثین مرة منسوبة إلی الله سبحانه وتعالی، ومرة واحدة منسوبة إلی الناس، وهذا الاستخدام بحد ذاته یدل علی مشروعیته من حیث الأصل، بینما وردت مادة (سبَبَ) مرّة واحدة في سیاق النهي وهي قوله تعالی: (ولا تسبّوا الذین یدعون من دون الله فیسبّوا الله عدواً).
وهذا النهي یدل علی قُبح السب والشتم، ولو کان اللعن مشارکاً لهما في ذلك، لنهی القرآن الكریم عنه، فدلّ عدم نهیه عنه، واستخدامه له، ونسبه إلی الله سبحانه وتعالی سبعاً وثلاثین مرة في القرآن الكریم علی أنه من ماهیة صحیحة ومطلوبة ومشروعة.
في ضوء السنّة الشریفة:
وإذا جئنا إلى السّنة النبویة وجدناها تشتمل علی عشرات النصوص التي استخدم النبي (صلى الله علیه وآله وسلم) فیها اللعن، ازاء أعداء الرسالة من المشركین والمنافقین وأهل الكتاب، وازاء حالات من المسلمین، یظهر فیها النبي (صلى الله علیه وآله وسلم) سخطه الشدید مما یقترفونه من المخالفات، أو تحذیره الشدید لهم من مقاربة الكبائر والموبقات، وقد أورد صاحب موسوعة أطراف الحدیث النبوي في مادة (لعن) قریباً من ثلاثمائة عنوان حدیث نبوي مصدّر بكلمة اللعن، رغم أنه لم یوفق لجمع کل أحادیث هذا الباب، وفات علیه بعض مما هو مشهور فیه، کلعن النبي (صلى الله علیه وآله وسلم) للمتخلف عن جیش أسامة.
خصائص اللعن والملعون في الكتاب والسنّة:
وحینما ننظر في آیات اللعن الواردة في القرآن الكریم نجدها علی أربعة طوائف: فمنها آیات وجهت اللعن إلی إبليس، مثل قوله تعالی: (وإنّ علیك لعنتي إلی یوم الدین) ، ومنها آیات وجهت اللعن إلی عموم الكافرین، مثل قوله تعالی: (إن الله لعن الكافرین وأعدّ لهم عذاباً سعیراً) ، ومنها آیات وجهت اللعن إلی أهل الكتاب عامة والیهود خاصة، مثل قوله تعالی: (لُعن الذین کفروا من بني إسرائیل علی لسان داود وعیسی ابن مریم) ، والقسم الرابع منها صبت اللعنة فیه علی عناوین سلوکیة عامة تشمل المسلمین، مثل عنوان الكاذبین في قوله تعالی: (والخامسة أنّ لعنة الله علیه إن کان من الكاذبین ، وعنوان الظالمین، في قوله تعالی: (ألا لعنة الله علی الظالمین)، وعنوان إیذاء الرسول (صلى الله علیه وآله وسلم) في قوله تعالی: (إن الذین یؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنیا والآخرة)، وعنوان رمي المحصنات، في قوله تعالی: (إن الذین یرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنیا والآخرة)، وعنوان القتل، في قوله تعالی: (ومن یقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فیها وغضب الله علیه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظیماً)، وعنوان النفاق، في قوله تعالی: (وعد الله المنافقین والمنافقات والكفار نار جهنم خالدین فیها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقیم)، وعنوان الفساد وقطع الرحم، في قوله تعالی: (إن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم).
وهكذا یتعقب القرآن باللعن خط الشر من حلقاته المُعادیة للتوحید والإسلام من الخارج، إلی حلقاته المعادیة لهما في الداخل، إلی الحلقات الاجتماعیة التي تهدد النظام الاجتماعي الإسلامي بالخطر وتُعرقل سیره وحرکته علی طریق السعادة والفلاح، والذي یلقي نظرة مقارنة بین الكتاب والسُنّة النبویة في هذا المضمار یتراءی له بوضوح أن السنّة النبویة رکّزت وتوسعت في لعن الحلقة الأخیرة، أکثر من سائر الحلقات، والدلیل علی ذلك أن اللعن علی لسان النبي (صلى الله علیه وآله وسلم) قد انصبّ علی عناوین اجتماعیة کلعن الخمر والربا والرشوة، ومانع الصدقة والزکاة... إلخ کما هو واضح من عناوین هذا الباب من الأحادیث النبویة الواردة.
وقد رويت أحاديث عدة تبين جواز اللعن لأعداء الله كما ورد عن الامام زين العابدين علي بن الحسين عليهما الصلاة و السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم).. الويل للمعاندين علياً كفراً بمحمد ، وتكذيباً بمقاله، كيف يلعنهم الله بأخزى اللعن من فوق عرشه!
وكيف يلعنهم حملة العرش والكرسي والحجب والسموات والأرض والهواء وما بين ذلك وما تحتها الى الثرى
وكيف يلعنهم أملاك الغيوم والأمطار وأملاك البراري والبحار وشمس السماء وقمرها و نجومها وحصباء الأرض ورمالها وسائر ما يدب من الحيوانات.
فيسفل الله بلعن كل واحد منهم لديه محالهم ويقبح عنده أحوالهم حتى يردوا عليه يوم القيامة، وقد شهّروا بلعن الله ومقته على رؤوس الأشهاد وجعلوا من رفقاء إبليس ونمرود وفرعون و أعداء رب العالمين.
وإن من عظيم ما يتقرب به خيار أملاك الحجب والسماوات الصلاة على محبينا أهل البيت و اللعن لشانئينا. ( البحار 68\37ج79).
اللعن ضرورة عقائدية:
اتضح مما سبق ان اللعن، من حيث الأصل مسألة عقائدية ضرورية، يحتاجها المجتمع المسلم، لتكريس وتعميق الأصالة الإسلامية في واقعه، واستخلاص الشوائب من داخله وإبراز الانزجار والتنفر من کل ما یمتّ إلی خط الشرّ والباطل بصلة، كالكفار في الخارج، والمنافقين في الداخل، والخارج على بلوغ مقاصدهم الخبيثة، تُعيق حركة المجتمع عن بلوغ أهدافه الإسلامية، وأنّه تعبير عقائدي عن الحاجة إلی تعميق الفاصل النفسي والثقافي والأدبي في حياة الإنسان المسلم، بين الإسلام من جهة، وخط الكفر والنفاق والإنحراف الذي يواجهه الإسلام في الداخل والخارج من جهة ثانية.
واللعن بهذا المعنی والمفهوم بعيد كل البعد عن السبّ، الذي هو مفردة سلوكية مخالفة تماماً لما عليه الأخلاق الإسلامية، وقريب كل القرب في مدلولته العقائدية من مفهوم الولاء والبراءة من جهة، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة ثانية، ذلك أن اللعن ينصب علی المحاور التي ينبغي عقائدياً علی المسلم إعلان براءته منها، كالكفار والمنافقين،
وعلی عوامل الانحراف الاجتماعي، والعناوين المرفوضة في السلوك الاجتماعي، التي يجب علی المسلم شرعاً مكافحتها، طبقاً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالتالي فهو تعبير أدبي عن فريضتين، عقائدية وشرعية، في آن واحد.
ولا يُفهم من ذلك أن الإسلام والمجتمع الإسلامي، في مواجهته لخط الكفر والنفاق والانحراف، يعتمد اللعن كوسيلة حاسمة، إنّما الوسيلة الحاسمة في الإسلام هي الدليل والبرهان والمنطق العقلي البرهاني، الذي عبّر عنه القرآن الكريم بصيغ مختلفة، وإذا ما احصينا استخدامات القرآن الكريم للمواد اللغوية ذات العلاقة بالفكر والعقل والدليل والبرهان والعلم والكتابة وأمثالها وجدناها تزيد علي الألفين ومائة وتسعين مرّة، بينما ورد استعمال القرآن الكريم لمادة اللعن ثمان وثلاثين مرة، فالدليل والبرهان قاعدة العقيدة في الإسلام، وما اللعن إلّا تعبير أدبي عن الوسيلة الدفاعية الاحترازية الرادعة، التي يلجأ إليها الإنسان المسلم في موارد الاحساس بالخطر، وإنّما يلعن اللاعن بعد وضوح البيّنة و قيام البرهان لديه علي الحق، وثبوت عناد وخصومة الطرف المقابل له.
نعم، ورد النهي عن أن يكون اللعن خُلقاً دائمیاً، وسليقة ثابتة يجري عليها المؤمن بنحو مستمر، كقوله (صلى الله عليه و آله): (ليس المؤمن بالسبّاب ولا بالطعّان ولا باللعّان)، وكقوله (صلى الله عليه و آله): (المؤمن لايكون لعّاناً).
وواضح أن الذي يقال له لعّان، هو من يجري اللعن على لسانه بنحو مستمر بسبب أو بدون سبب، أما الذي يلعن بالقدر المناسب للمقام، فلا يقال عنه لعّاناً، لأن صيغة فعّال تستخدم لمن تغلب عليه صفة معينة، وأكثر ما تطلق على أصحاب المهن، كالنجّار والقصّاب، وغيرهما، ممّن یتّخذ هذه العناوین مهنةً و عملاً، وواضح أن الذي يتولّی ذبح الذبيحة بنحو طارئ في حياته لا يقال له قصّاب، وإنّما يقال هذا العنوان لمن يتولّی هذا العمل بنحو يوميّ مستمر كوظيفة دائمية له، واللعّان من هذا الباب والنهي عنه لايستلزم النهي عن أصل اللعن، فلا تعارض بينهما أصلاً.
أمّا حديث (لا تكونوا لعّانین) فلعلّه نهي أن يكون السبّ خُلقاً لهم، بسبب المبالغة فيه والإفراط في ارتكابه، بحيث يلعنون كل أحد، كما يدل عليه قوله: (لعّانین) لا أنّه نهي عن لعن المستحقین و إلّا لقال: لا تكونوا لاعنين، فإنّ بينهما فرقاً يعلمه من أحاط بدقائق لسان العرب.
واتّضح سابقاً أن اللعن ضرورة عقائدية يحتاجها المجتمع العقائدي الإسلامي لتحصين بنيته العقائدية من خصوم الإسلام الداخليين والخارجيين، ومن بعض أنماط السلوك الاجتماعي التي تهدد النظام الاجتماعي الإسلامي، بالخطر.
بينما السب ظاهرة أخلاقية منبوذة، ومفردة سلوكية مرفوضة، من وجهة نظر القرآن والسنّة النبوية وائمة أهل البيت (عليهم السلام).
اضافةتعليق
التعليقات