تعود علينا ذكرى الأربعين، ذكرى وفاءٍ واستشهادٍ لأفضل خلق الله وأحسنهم، حيث تأخذنا هذه المناسبة لنتأمل في قيم الوفاء والإخلاص التي جسدها الإمام الحسين وأخوه أبو الفضل العباس (عليهما السلام) ومن معهم. عند أول خطوة يتجه بها الزائر نحو كربلاء في هذا الوقت من السنة، تُسجّل درجات الحرارة أعلى مستوياتها بين الحين والآخر.
يشعر الماشي بمشقة الطريق منذ الدقائق الأولى، عطشٌ مستمر رغم توفر الماء، وإعياءٌ يعجب له القاصد وهو محاط بكل سُبل الراحة والاستراحة. فيأخذه فكره نحو معركة الطف وسَبي العيال، وما جرى عليهم من ظلم وأذى طوال المسير، الذي تشح فيه الرحمة، وتنعدم فيه الإنسانية، وتكثر فيه المهانة، ويزداد فيه الخوف والهضم والوهن. وهذا ما يجعله يتحمل المشاق وفاءً للحسين (عليه السلام)، ولتضحياته وعطائه، من خلال السير على طريقه والثبات على الدين وعمق الإيمان.
فكل خطوة في طريق الأربعين تعزّز الارتباط بالقيم الإلهية والالتزام بها، وتُجسّد الصلة بين العبد وربه جلّ وعلا، كما تجمع هذه الزيارة العظيمة بين الناس بكل اختلافاتهم، وتعزز التعاطف والتضامن بينهم، طالما يتساوى الغني والفقير، والقوي والضعيف، في تلك المسيرة الجامحة. إذ يعمّ السلام الأرجاء، ويكسو الحزن الممزوج بالفرح والطمأنينة قلوب الموالين والعاشقين والتائهين، حتى يصلوا وجهتهم معززين مكرمين، ببركة ومحبة أهل البيت (عليهم السلام) على حدّ سواء.
قد نلتمس في زيارة الأربعين نفحات لا تُعدّ ولا تُحصى، إنما أعظمها فرصة التواصل الروحي مع الإمام الحسين (عليه السلام)، والشعور بالانتماء والعزيمة لنصرته والثأر له، الذي لا يموت، بل يُسترد، وجمره في الأضلاع يغلي، ولا سبيل لإطفائه في قلب المؤمن حتى يناله مع إمامٍ وصيٍّ منتظر، ندعو الله في كل ساعة بتعجيل فرجه.
إنّ زيارة الأربعين في كل عام تدعونا إلى التفكر والتأمل في معاني الشهادة والوفاء، والقيم الإنسانية التي عمل على ترسيخها إمامنا، سيدُ شباب أهل الجنة، وخطّها بدمائه الطاهرة، ودماء أخيه وأولاده وأصحابه، ومظلومية آل بيته من النساء والأطفال، أولهم عقيلة بني هاشم، جبل الصبر، زينب الحوراء (عليها السلام). إنها أروع بطولات ودروس سُجّلت على مرّ التأريخ، يعود لتصفحها أعظم الكُتّاب والعلماء، وكل زائغٍ متحيرٍ، فيجد ضالته لا محالة.
اضافةتعليق
التعليقات