عندما نتحدث عن أهم الحركات الفكرية التي كان لها التأثير الأكبر في عمق تجذر المبادئ الإنسانية، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا الدور الفاعل لحراك الفكر الإسلامي في تغيير مجريات التاريخ ، فبزغ مع بعثة الأمين محمد (صلوات الله وسلامه عليه) فجر جديد من التعاليم المتممة لجميع ما جاء به الأنبياء والرسل قبله.
فكان هذا الدين البادرة القوية في القضاء على العبودية وصناعة فكر إنساني جديد من التراحم والمحبة فكانت حضارته شعلة توقد ما نراه اليوم. من التقدم العلمي والمعرفي، لتمر الأعوام عليه بحزم من التحولات الآنية المرافقة لكل حقبة زمنية، فكانت المرونة التي تتسم بها معالم هذا الفكر من أهم الدعائم التي ضمنت استمرار تناقله عبر منظومتي الزمان والمكان مستوعبا كل مجريات التغيير.
مواجه بذلك كمّا من المقاومة الدؤوبة من تيارات الفكر النفعية التي تكاد أن تُحكم قبضة الاستعمار المادي على العالم، في دعوة صريحة وواضحة، ولما لهذا الاستعمار من حاجة إلى أرضية لتوطيد بناه التحتية، فإن من أولى خطواته هي عملية أدلجة فكرية ممنهجة، تطرح بشكل تدريجي تمهيدا لإحداث نقلات مستهدفة كبيرة، وهو ما نواجهه من استمرار التداخل الذي تحدثه أدوات الثقافات الغريبة الحديثة على مجتمعاتنا بشكل مستمر، وبطرق متطورة تواكب التقدم الحاصل في كل مفاصل الحياة، لتضمن بذلك مشاريع القوى الناعمة حصتها الأكبر من هذا التداخل ، داخلة إلى المجتمع بشكل مستتر.
فقد تتمثل في بعض الأحيان بطرق حديثة في التعليم من كورسات أو دورات تدريبية تعنى بالتطوير الشخصي أو المؤسسي حيث يدّعي مروّجوها في الغالب تبنيّهم أهداف صناعة الإنسان وتمكينه، منها تلك التي تعني ببعض علوم الطاقة الزائفة، وما تشكله أفكارها من خطر على البنية العقائدية للمسلم، فهي تستهدف شريحة الناشئة من الأفراد، مستغلةً في ذلك بعض الحاجات النفسية غير المشبعة لديهم من قبل مجتمعاتهم الراهنة، من حاجات تحقيق الذات وتقديرها، حيث تعتمد على استثارة المشاعر المتعلقة بهذه الحاجات كالرغبة بالشعور بالثقة بالنفس أو حب التمييز والنجاح، من خلال التوسع باكتساب علوم وهمية فارغة.
ويعد البعض هذا النوع من التعلم كإحدى المتطلبات الحديثة للازدهار الاقتصادي والاجتماعي، فهي وسيلة تعمل على تطوير الجوانب المهارية للأفراد الوجدانية والحركية عل حد سواء، إن استثمر بالطريقة السليمة، إلا أنها قد تكون بشكل أو بآخر حاوية على البعض من الأفكار والفلسفات المناوئة لبعض التعاليم الإسلامية، وغالبا ما تكون مستترة بطريقة احترافية تحت شعارات تستغل بعض من الرغبات المكبوتة أو المغيبة بغية ترسيخ دعائمها الأساسية، وصولا منها لإحداث تغيرات كميّة متراكمة، بإرادة المتحمسين لتطوير ذواتهم.
وتبعا لما اعتادته مجتمعاتنا من الانبهار المفرط بكل ما هو غريب وجديد، أصبح التعامل مع هذه المواد على أنها مصدر من المصادر الشائعة لما تحتويه من مواد علمية تحاكي مشاعر الإنسان وأحاسيسه، فقد تحمل في طياتها سبل ناعمة بقدرات كبيرة على تغيير الأفكار وتذويب المعتقدات التي يتضمنها موروثنا القيمي والثقافي، والشاهد هنا تجارب البعض ممن تخلوا عن هويتهم نتيجة لخوضهم في غمار بعض هذه المواد، الأمر الذي يستدعينا جميعا لأن نحاول الاستفادة من هذا الإقبال على هذا النوع من التعلم بالطريقة المثلى، لما لها من التأثير بين صفوف الناشئة من الشباب والشابات على حد سواء.
كما وأن عملية تطويع هذه الأداة بما يتناسب ومجتمعنا يتطلب جهداً كبيراً ومثابرة من قبل أهل الشأن والاختصاص، فبحسب رأي العديد من المختصين فإ
نه يمكن ذلك بتوفير بدائل علمية وعملية ممنهجة بما يتلاءم وطبيعة البيئة المراد استخدام هذه الأداة فيها من خلال العديد من السبل لعل من أبرزها:
1_ إثراء هذه المناهج التدريبية بموروث مؤصل من طبيعة حياة العينات المراد سد احتياجاتها المعرفية والمهارية، وذلك من خلال الانتقاء الدقيق للأفكار المطروحة من منبعها الأمثل وهم مدينة العلم محمد وآله صلوات ربي وسلامه عليهم، ولا أخال أنهم تركوا جانبا من جوانب الحياة إلا ووضعوا له أصوله وأحكامه المرنة التي تتناسب مع كل المستويات، ولعل من أبرز هذه المصادر هو كتاب نهج البلاغة وغيره من الكتب التي تحوي تراث أمير المؤمنين علي (عليه السلام) المتضمن المئات من خطبه ووصاياه، متناولة حلولا لمختلف المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية، فهي مصدر خصب لفلسفتنا الإسلامية وتراثنا الثقافي والمعرفي، التي كانت وما زالت محط احترام من مختلف الطوائف والأديان حول العالم، فلقد تغنت بأقوال هذا الحكيم كبرى مؤسسات العالم القديم والمعاصر.
إضافة لذلك تضمين ما هو منتقى من النتاج الفكري العالمي المعاصر الحاوي على مواد عامة خالية من كل مضمون مغرض، مع الإستعانة بالكتاب أصحاب التوجهات المأمونة لإثراء هذه المناهج وربطها المفاهيم التي تكون على ضوء متبني فكريا وعقائديا مع إعطائهم المساحة الكافية لأن يدلوا بأرائهم من دون فرض قيود تتعلق بمصالح فئوية أو خاصة.
2_ العمل على إنشاء مراكز متخصصة في الدراسات النفسية، تضم عينات من داخل المجتمع، وتفعيل دور الموجود منها، خاصة تلك التي تُعنى بمحاولة دراسة وفهم سلوك الإنسان بالمنظور الإسلامي، فكما هو معروف لدى الجميع إن أغلب البحوث والدراسات التي تدرج في سياقات هذه المناهج هي نتاج عمل ميداني تم على عينات بحثية لمجتمعات تحمل فكر وثقافة وبيئة تختلف قيميا وأخلاقيا عن بيئتنا.
ونظرا لما يجمع عليه الباحثون في مجالات الدراسات النفسية أن نتائج أي دراسة تخص الخصائص النفسية للمجتمعات لا يمكن أن تعمم في كل الحالات إلا في حالة تشابه العينات المستهدفة مع عينات الدراسة في عدة مستويات (الاقتصادية، والبيئة، والاجتماعية، الثقافية، والعلمية)، لتكون بذلك نتائج التعليم أكثر تجذرا في نفس المتعلم، ولتعلق المواد بما يختبره في حياته فعليا، إضافة إلى تعزيز الدور الثقافي في المجتمع عن طريق العمل على إنشاء منتديات الحوار التي يتبادل فيها الشباب الأفكار التي بإمكانها تعزيز الجانب الثقافي للمجتمع من خلال المسابقات والمهرجانات الثقافية التي يمكن أن تفتح المجال للشباب الواعي من يترجم أفكاره ثقافته على أرض الواقع.
ويمكن العمل بهذا المشروع من خلال العمل على إعداد جيل الشخصيات المتسمة بامتلاكها مقومات تؤهلها للتصدي لهذه المهمة التي تعد من متطلبات التغيير في عصر العولمة والتطور، وعليه يكون المختار لهذه المهمة أن يكون متسما بأهم المبادئ التي تعني بمفهوم النمذجة السلوكية للجماهير والتي تعتمد مفهوم التعليم بالسلوكيات وهذا ما أكد عليه التقرير الدولي الذي اصدرته الأمم المتحدة في عام 2003، في أساليب محاربة الجهل والأمية والأخذ بيد التطور والتقدم إذ تضمن التقرير مبدأ الإمام علي (عليه السلام) في القيادة، وهي ما نقل عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر، والتي تعد من الوثائق التاريخية المعتمدة في العديد من المؤسسات العالمية كمصدر من مصادر التشريع، وهي قوله (عليه السلام): "من نصب نفسه للناس إماماً فليكن تأديبه لهم بسيرته قبل قوله، و لمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتعظيم من معلم الناس ومؤدبهم".
ليكون الشرط في تسنم هذه المسؤولية عبور مراحل مجزية في ممارسة مهارات إدارة الذات بالمقام الأول، وأن يكون تجلي معالم ما يعلموه لغيرهم في أفعالهم وسلوكياتهم، متمكنين من أن يُكسبوها لمن هم بحاجة لها من عامة الناس بشكل فاعل وحقيقي.
اضافةتعليق
التعليقات