بين يديكم هذه السطور التي مُزج فيها عبير البلاغة بمبضع التحليل النفسي، لنستكشف أغوار النفس البشرية في رحلتها نحو الحق مستلهمين من قصة كليم الله موسى -عليه السلام- خارطة طريق للسالكين.
تُعد النفس الإنسانية مسرحاً لصراع القيم، حيث تتجلى العفة ككفٍّ عن الجوارح، بينما يمثل الحياء انكسار الروح وهيبتها أمام جلال الله؛ فالعفة انضباط سلوكي والحياء رقيٌّ وجودي.
أما في الجانب المظلم، فيبرز العُجب كفخٍّ نفسي يقع فيه المرء حين يزهو بعمله وهو حالة من "التضخم الذاتي" التي تحجب رؤية الفضل الإلهي. ويليه الغرور، وهو خداعٌ بصري للروح إذ تتوهّم النفس النفع فيما هو محض ضرر كلاهما -العجب والغرور- رذيلتان تحبسان السالك في سجن "الأنا"، وتمنعانه من العبور نحو "هو".
اما في فلسفة الصبر فمخاض الروح ونضج البذرة إن "المريد العجول" هو الشخص الذي يفتقر إلى النضج النفسي لاستيعاب الأنوار؛ فالعطاء المبكر لمن لم يتقن "أدب الانتظار" هو ظلمٌ له لا تشريف، لأن الروح التي لم تنضج بنار الصبر تظل نيئة لا تصلح للسلوك.
تأمل في سيكولوجية الفلاح؛ إنه المثال الأتم للسكينة؛ يودع البذرة في ظلمات الأرض يسقيها ثم يمارس "الصبر الاستراتيجي". لا يستعجل الثمر، لأنه يدرك أن لكل تجلٍّ وقتاً معلوماً.
طريق الحق هو "طريق النخيل"؛ شاهق، راسخ، وبطئ النمو، وليس "طريق الورود" التي تذبل بمجرد القطف. من أراد السنة في يوم، فقد خان منطق الوجود، ومن لم يطوِ المسافات صبراً طرده الأستاذ من حضرة التحقيق.
وفي قصة الكليم في محراب تكوينه يتجلى لنا الصبر بأبها صورة فعشر سنوات من الصمت.
لم يكن اشتغال موسى -عليه السلام- راعياً عند شعيب مجرد مهنة بل كان مختبراً نفسياً وتربوياً. عشر سنوات من "الخلوة في الجلوة" يربي فيها نفسه على الصبر والرعاية ليكون مؤهلاً لرعاية أمة بأكملها.
لقد كان موسى يغرس بذرة التغيير في نفسه أولاً وفي قلوب الثلة المؤمنة ثانياً. إن الانتقال من "عالم العبارة" (الظاهر) إلى "عالم الحقيقة" (الجوهر) يتطلب سعة وجودية؛ فالناس مراتب:
أهل العبارة: يقفون عند الرسوم والظواهر.
أهل الإشارة: يغوصون في المعاني والدلالات.
أهل اللطيفة والحقيقة: وهم الذين استخرجوا درر اليقين من بحر المجاهدة.
وهنا ايضا نستذكر مفارقة النار والخضار: الحب الذي لا يحرق ففي الوادي المقدس، رأى موسى شجرة خضراء تشتعل ناراً ولا تحترق! هذه الصورة هي التجسيد الأسمى لـ "نار العشق الإلهي".
النفس الشابة الطرية والندية هي أقبلُ لاحتضان هذا الوجد. إن القلب حين يكون ندياً بالخضوع لا تأكله نار الحب بل تزيده توهجاً ونوراً. فالحب الزائد يولد نوراً لا رماداً.
لكن هذا التوهج لا يأتي عبثاً بل يحتاج إلى "حطب الإرادة" من مناجاة المريدين، و"خشب الحنين" من مناجاة المحبين، ليوقد في موقد صلاة الليل ودعاء السحر. ومن لم تدمع عينه حزناً على احتراق خيام "القيم" (كما في مأساة زينب عليها السلام) لن تبصر عين قلبه نار الأسرار.
طي النفس وخلع النعلين: شروط الوصول
"إخلع نعليك" ليست مجرد حركة مادية بل هي إشارة نفسية لخلع "نعل الاهتمام بالدنيا" والتخلي عن الأثقال التي تشد الروح إلى الأرض.
الطيّ هو لبُّ العملية التربوية؛ أن تطوي ملكاتك السيئة، تطوي "أناك" وتطوي أوهامك. فمن أراد الوادي المقدس، عليه أن يأتي "مخفّاً" من أوزار التعلق.
يقول اساتذة العرفاء "اترك نفسك وتعال". هذه هي قمة التسليم والتفويض، حيث ينشغل العبد بالمعبود فيكفيه المعبود مؤونة الوجود.
إن الإنسان هو "كون صغير" يختزل في باطنه كل صراعات التاريخ.
قلبك هو كربلاء المعنى؛ فيه معسكر الحسين (العقل والقيم) ومعسكر ابن سعد (الهوى والغرور). فلا تكن "حسينياً" في ظاهرك و"أموياً" في أخلاق باطنك.
كن كالأرض؛ سهلاً متواضعا منبسطاً فالحكمة لا تنبت في القمم الشامخة كبراً، بل في الوهاد المنخفضة تواضعاً.
فيا رفيق الدرب. ضع فأسك على عاتقك وحطّم أصنام الأنا لتتحول نارك برداً وسلاماً وتغدو شجرتك الخضراء مناراً للسالكين.








اضافةتعليق
التعليقات