الحياة السريعة والمضغوطة جعلت الإنسان يعيش في كبسولة من الضغط النفسي اليومي الذي لا يعرف كيف يتعامل معه فيتخذ الطرق السهلة بدلاً عن المفيدة إما يعبر عن هذا الضبط بالغضب أو القلق الحاد بالتالي يعيش اضطرابات صحية واضطرابات في النوم بشكل مستمر مما يقلل من جودة الانتاجية حتى يتحول الضغط الى سلوك والاضطراب المستمر إلى عادة حياتية وهنا سيكون المحيطين بهذا الشخص يعيشون معه ذات الضغط تلقائيا كالشريك من الزوج والزوجة والأطفال والوالدين إذ أن طاقة الشخص انتقالية بشكل تلقائي، والنتيجة تكون قلق وراثي ينتقل من الآباء إلى الأبناء بالجينات والسلوكيات كما تزداد حدة السلوك مع زيادة ضغط الحياة العصرية المستمرة إضافة إلى ضعف المناعة والاصابة بالأمراض الجسدية.
وقد تم اجراء دراسة لقياس مناعة الأشخاص وكيف البعض يعيشون دون أمراض مزمنة فترة طويلة وآخرين يُصابون منذ الصغر بالأمراض المزمنة ففي سنة 2003، وأثناء البحث في أنماط الأمراض المزمنة، لاحظ أحد علماء المناعة السلوكية ملاحظة غير متوقعة الأشخاص الذين نادراً ما يصابون بالمرض كانوا يجتمعون على سلوك واحد غريب إذ كانوا يتحدثون إلى أنفسهم بصوت مرتفع في المتاجر، أثناء القيادة، وحتى خلال المشي بهدوء ليس بدافع اضطراب نفسي، بل لأنهم - دون وعي - كانوا يعيدون تنظيم جهازهم العصبي وعندما خضع المتطوعون لأجهزة قياس فسيولوجية لحظة بلحظة ظهرت النتائج بوضوح التعبير عن الأفكار بصوت مسموع وانخفاض هرمون التوتر (الكورتيزول بنسبة 35%).
إذ أن الكتمان والصمت الطويل يعني بقاء الكورتيزول مرتفعاً لساعات على أثر ذلك قال أحد الباحثين"أن الجسم يتعامل مع المشاعر المكبوتة كأنها مادة سامة لا يستطيع التخلص منها" ويروي أحد المدراء التنفيذيين الناجحين الذي كان يفتخر دائماً بأنه "لا يعبر" صدمته عندما اطلع على نتائج فحوصات جسده كان يُظهر مؤشرات التهاب تشبه الأمراض المزمنة وبمجرد أن بدأ بالتحدث مع نفسه داخل غرفة فارغة، تحسنت أرقامه خلال أسبوع واحد فقط، ذلك لأن الصوت ينشط العصب الحائر فيبطئ ضربات القلب، ويرسل رسالة للجهاز المناعي مفادها "اطمئن لا يوجد خطر" ويطلق العلماء على ذلك اسم المضاد الصوتي.
فكما يحتاج الجسد لهضم الطعام، يحتاج العقل إلى هضم الأفكار أما النتيجة الأخطر فكانت الأشخاص الذين نشأوا على الكتمان والتحمل بصمت كانوا الأكثر عرضة لضعف المناعة.
الخلاصة البسيطة هي "أن الأصحاء ليسوا من لا يشعرون بالتوتر بل من يُخرجونه بصوت مسموع، حتى وإن لم يكن هناك من يسمع".
ولتوضيح الفكرة فسيولجياً فهذه العملية أي التحدث مع الذات التي تعد أحد تمارين "المناعة النفسية-العصبية" أو "الميكانيكا الحيوية" التي تفسر لماذا يتحول الصمت إلى سمّ، وكيف يعيد الصوت ضبط خلايا الجسم، فلو أردنا تعريف الصمت أو الكبت من الناحية الكيميائية الحيوية ونتساءل كيف يفكك التوتر خلايانا؟
عندما نحبس مشاعرنا وتظل أفكارنا حبيسة الصمت، لا يكتفي العقل بتخزينها كذكريات، بل يترجمها الجهاز العصبي إلى "حالة استنفار بيولوجي" دائمة وفسيولوجياً، تؤدي الضغوط المكبوتة إلى تنشيط مستمر للمحور الهيبوثلامي-النخامي-الكظري، وهذا النشاط المستمر يبقي هرمون الكورتيزول في مستويات "سامة"؛ بينما يعمل الكورتيزول في حالته الطبيعية كمضاد للالتهاب، يؤدي ارتفاعه المزمن إلى نتائج عكسية تماماً تُعرف بـمقاومة الكورتيزول.
في هذه الحالة، تفقد الخلايا المناعية حساسيتها للهرمون، مما يفتح الباب لانتشار الالتهابات الجسدية على المستوى الخلوي، يؤدي إلى تقصير التيلوميرات، وهي الأغطية الواقية لنهايات الكروموسومات؛ مما يعني أن الصمت والكتمان يسرّعان من الشيخوخة البيولوجية للخلايا ويضعفان قدرتها على الانقسام والتجدد.
هنا تبرز المعجزة الفسيولوجية للتعبير الصوتي؛ إن الحديث مع النفس ليس مجرد تفريغ عاطفي، بل هو تمرين ميكانيكي للعصب الحائر هذا العصب، الذي يمتد من الدماغ إلى أحشاء الجسم، يتحسس ذبذبات الأحبال الصوتية أثناء الحديث.
هذه الاهتزازات ترسل إشارات فورية للجهاز العصبي الباراسمبثاوي (الناقل للهدوء) ليفرز مادة الأستيل كولين، التي تعمل ككابح طبيعي لضربات القلب المتسارعة ومثبط لإنتاج السيتوكينات الالتهابية.
إن الهضم الفكري عبر الصوت يحول التجربة النفسية من ضغط يمزق الخلايا إلى تدفق معلوماتي يعالجه الدماغ، مما يعيد توازن الغدد الصماء ويمنح الجهاز المناعي هدنة ضرورية لإعادة بناء نفسه. وبذلك، يصبح الصوت هو الجسر الذي يعبر عليه الجسد من حالة البقاء والقتال إلى حالة الاستشفاء والنمو.








اضافةتعليق
التعليقات