نظمت جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية محاضرة ثقافية مع آية الله السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) في مدينة النجف الأشرف، وذلك بتاريخ 2/12/2025، 10 جمادى الآخر.
استهل سماحة السيد كلامه بالآية القرآنية الكريمة: "فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".
وأردف قائلاً: سيدور الحديث، بإذن الله تعالى، حول مفردة "التفقه" في هذه الآية الشريفة؛ حيث إن التفقه في الدين كمال وشرف لكل إنسان مهما كان موقعه؛ سواء أكان عالماً دينياً، أم أستاذاً جامعياً، أم طالباً في المرحلة الابتدائية، أم كانت ربة بيت، أم كان مزارعاً أو تاجراً أو غير ذلك. فالتفقه في الدين شرف وكمال للجميع.
بيد أن التفقه في الدين مراتب ودرجات؛ فالعالم المتخصص المتفرغ ينال الدرجات العليا، ولكن هذا لا ينفي مطلوبية أن يحصل كل إنسان على بعض الدرجات بحسب مستواه؛ فربة البيت يمكنها أن تحظى ببعض مراتب التفقه.
وحديثنا اليوم يدور حول بعض مراتب التفقه العامة لكل الناس. وإذا ما أوليتم هذا البحث اهتماماً جيداً، فإنه سيفتح لكم نافذة على "التفقه الإبداعي" في مباحث الدين وغيرها؛ فكلامنا وإن كان حول الدين، إلا أنه يفتح آفاقاً لطرق التفكير المبتكر في أي حقل تدخلون فيه، سواء كان تخصصكم في الاقتصاد، السياسة، الأمن الاجتماعي، الإدارة، الحقوق، الفقه والأصول، الفلسفة، أو حتى العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء.
هذا البحث نافع للمدرسين والمدرسات، وللمحاضرين والمحاضرات، وللخطباء، ولكتاب البحوث والمقالات؛ بل هو ينفع كل إنسان في مرحلة تشكيل أفكاره قبل كل شيء. إذن، عنوان البحث هو: "كيف نتفقه في الدين؟"، وكيف نصل إلى صياغة محاضرات متميزة بالتفكير الإبداعي؟ وكيف نربي أطفالنا عبر طرق أكثر تطوراً مما هو معهود؟
الآية الشريفة تقول: "لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ". ونحن هنا نذكر لكم بعض القواعد التي تحتاج منكم إلى قليل من التركيز:
القاعدة الأولى: قاعدة "التشبيك بين العلوم"
إن التشبيك بين العلوم يُحدث فارقاً كبيراً؛ وذلك بأن يدرك الإنسان كيفية الربط بين علم الأصول وعلم الاقتصاد مثلاً، أو يربط علم الاجتماع بعلم الحقوق، أو السياسة، أو الإدارة. فعلى المتخصص في الإدارة أن يتساءل: كيف استثمر القواعد المذكورة في علم الأصول في مجال الإدارة؟ وكيف أستثمر قواعد علم الاجتماع في علم الأصول أو الفلسفة؟ إن التشبيك بين العلوم يعد إحدى الطرق الرئيسة في تطوير العلوم وتطوير الأداء، سواء في المحاضرات أو التدريس أو البحوث.
ونذكر لكم مثالين من الأمثلة الكثيرة، مع محاولة تبسيط البحث قدر المستطاع:
• المثال الأول: عندما تقرأون الآية الشريفة: "مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ"، أو تقرأون الرواية الشريفة: "كيفما تكونوا يولى عليكم"؛ فإن التشبيك هنا يكمن في إيجاد صلة بين هذه النصوص وبين علم الفيزياء. فإذا أمعن الإنسان النظر، سيري أنها قاعدة فيزيائية كما هي قاعدة مجتمعية. إن "قانون نيوتن الثالث" هو تجسيد لهذه المعادلة القرآنية والروائية؛ حيث القانون المعروف: "لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه". هذه القوانين الفيزيائية يمكن استثمارها في علم الاجتماع، والإدارة، والتفسير. فمن الواضح أن الجزاء يكون من جنس العمل، ويساويه في القوة، كما في قوله تعالى: "لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ"؛ فبمقدار الظلم الذي يوقعه الإنسان بالناس، يجزيه الله بالسوء وبقوة موازية ومعاكسة في الاتجاه.
• المثال الثاني: تأملوا في هذا المثال لما فيه من نفع؛ هناك قاعدة في علم الأصول تُسمى "الاستصحاب"، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1. الاستصحاب المعهود (الزماني).
2. الاستصحاب القهقري.
3. الاستصحاب الاستقبالي.
أما الاستصحاب المعهود، فمثاله أن يكون الإنسان متوضئاً قبل ساعتين، ثم حين يريد الصلاة يشك هل انتقض وضوؤه أم لا؟ فماذا يفعل؟ يستصحب الحالة السابقة. فكما ورد في الرواية الصحيحة عن زرارة: "فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً"؛ وهذه القاعدة تمنحنا الاطمئنان، فيبني الإنسان على أنه لا يزال متطهراً. وهكذا الحال إذا غاب الزوج عن زوجته وانقطعت أخباره بسبب السفر، فماذا تفعل؟ تستصحب حياته، ويبقى كل شيء على حاله شرعاً. فالاستصحاب المعهود حاضر في كل جوانب الحياة وله سيادة في تنظيمها.
لو كان لكم صديق أو صديقة في بلد غريب قبل عشر سنوات، ثم افترقتم بسبب سفر أو هجرة، وبعد عشر سنوات عدتم إلى ذلك البلد وليس لديكم خبر عن تلك الصديقة أو تلك الأسرة؛ فماذا تصنعون؟ إنكم تستصحبون بقاءهم في الدار السابقة، وتذهبون إلى العنوان ذاته، رغم احتمال انتقال تلك العائلة؛ وهذا ما يُسمى بـ "الاستصحاب المعهود"، وهو سحب حكم الماضي وجرّه إلى الحاضر.
الاستصحاب الاستقبالي
ولدينا نوع آخر يُعرف بـ "الاستصحاب الاستقبالي"، وهو سحب حكم الحاضر وجرّه إلى المستقبل.
مثاله: إذا كان إمام الجماعة بالأمس عادلاً، وشككتم اليوم: هل لا يزال على عدالته أم لا؟ وهل تصح الصلاة خلفه؟
الجواب: نعم، تصح الصلاة خلفه؛ لأنكم تقولون: "كان بالأمس عادلاً فهو اليوم عادل". ولو كان "زيد" اليوم عادلاً، فماذا يكون في الغد؟ نحكم بعدالته استصحاباً.
وفائدة هذا الاستصحاب تظهر في صحة الاقتداء؛ فكيف تأتمّ بفلان وأنت تحتمل أنه قد صار فاسقاً في الواقع؟ هذا الجواز مبني على "الاستصحاب الاستقبالي". وبالطبع البحث في هذا النوع مفصل جداً، وما ذكرناه هو الصورة المبسطة له؛ أي أن حكم الحاضر يمتد للمستقبل.
الاستصحاب القهقري وأصالة ثبات اللغة
وهناك نوع ثالث يسمى "استصحاب اللطف" أو "الاستصحاب القهقري"؛ وهذا يعمل بالاتجاه المعاكس، إذ ينطلق من الحاضر ليرجع إلى الوراء. فإذا وجدنا صفة أو حادثة الآن، نرجع بها إلى الماضي ونقول: "كانت قبل عشرين سنة على هذا الحال أيضاً".
ولهذا النوع أمثلة كثيرة، منها "أصالة ثبات اللغة".
دققوا هنا؛ أنتم حين تتناولون كتاباً كُتب قبل ألف عام، واللغة كما يقال "كائن سائل ومتحرك" تتغير معاني كلماتها بمرور الزمن؛ فكيف نثق بفهمنا؟
كلمة "المكروه" في اصطلاحنا المعاصر هي قسيم للحرام (أحد الأحكام الخمسة)، ولكن ما معناها في عرف الأئمة (عليهم السلام)؟ لقد ذهب بعض العلماء إلى أن "المكروه" في لسان الروايات يعني "الحرام"؛ فقولهم: "أكره كذا" أي هو حرام ولا تفعله.
حين تقرأون "نهج البلاغة"، من يضمن لكم أن الإمام علي (صلوات الله وسلامه عليه) يقصد المعاني ذاتها التي نفهمها اليوم؟ وكذلك الحال في كتب القانون والفلسفة والرياضيات.
هنا يأتي دور "الاستصحاب القهقري" لحل المشكلة؛ فنقول: "ما نفهمه من الكلمات في زمننا هذا هو ذاته ما كان يُفهم بالأمس وقبل ألف عام"، إلا ما خرج بدليل خاص (مثل كلمة المكروه). وهذا ما يُصطلح عليه أيضاً بـ "أصالة ثبات اللغة".
أصالة ثبات الأبنية والعادات
وكذلك يجري الأمر في "الأبنية"؛ فقد وردت روايات كثيرة حول "الحمام" وطهارته (والمقصود بها الحمامات العامة آنذاك). واليوم أصبح لكل فرد حمامه الخاص في بيته، ولكن قديماً كان الجميع -باستثناء الأثرياء- يرتادون الحمامات العمومية.
هناك قد يشك المرء في النجاسة؛ لأن الناس يأتون من كل حدب وصوب، وفيهم الكافلر والمشرك، ومن قد يحمل نجاسة عرضية كالدم. فهل الماء السائل على الأرض نجس؟ الروايات تقول: إن هذه الأرض طاهرة وتلك الحياض طاهرة (وفق تفصيل فقهي).
لقد كانت الأبنية في ذلك الزمان تختلف عما هي عليه الآن، فهل كلام الإمام (عليه السلام) عن طهارة الحمام يشمل حمامات عصرنا؟ هنا نتمسك بـ "الاستصحاب القهقري"، ونقول بـ "أصالة ثبات الأبنية". فالعادة أن هيئات الأبنية لا تتغير تغيراً جذرياً يخل بالموضوع، ولو تغيرت لنقلها التاريخ؛ فالمقتضي لوجود مطبخ وغرفة وساحة في كل بيت هو قاعدة عامة ثابتة.
وهذا يجري أيضاً في الصفات والعادات والتقاليد؛ فنحن لدينا "أصالة ثبات العادات والتقاليد". فإكرام الرجل المحترم بالقيام له يُعد من العادات المستمرة، وكذلك تقبيل الأبناء لأيدي والديهم؛ فمثل هذه الأخلاقيات نرجع بها إلى زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) ونحكم بوجودها وثباتها ما لم يثبت العكس.
أصالة تشابه الأزمنة والتشبيك المعرفي
تأملوا كيف بدأت العلوم المختلفة يرتبط بعضها ببعض؛ فقسم منها يقع في علم الاجتماع، وقسم في علم السياسة، وكلاهما تجري فيهما "أصالة الثبات". إن طريقة تعامل الحكومات مع الشعوب، على سبيل المثال، يقع قسم منها في البحث الأصولي، وقسم آخر في الفقه؛ كمثال "الحمام" الذي ذكرناه، أو عدالة إمام الجماعة، وما إلى ذلك من مسائل تمثل مجموعة علوم متداخلة.
هذه القاعدة هي التي أسماها المحقق العراقي بـ "أصالة تشابه الأزمنة"؛ ومؤداها أن الأزمنة متشابهة في أحكامها وصفاتها إلا ما خرج بدليل. فاللغة ثابتة في الماضي والحاضر والمستقبل، وكذلك الأبنية، وحتى العادات والتقاليد العشائرية؛ فأنتم تعلمون أن للقهوة طريقة خاصة في التقديم، فإذا رأيتم عشيرة تتبع هذا العرف الآن، فاعلموا أن الحال كان كذلك قبل مئة عام. فمن يقدم لك القهوة، ينبغي أن تتناولها بيدك اليمنى، ويُعد تناولها باليسرى إهانة. ومن لا يعرف القاعدة الأصولية قد لا يدرك عمق هذا الاستمرار؛ فنحن نحكم بأن القاعدة الموجودة الآن ستظل موجودة بعد مئة عام بناءً على "الاستصحاب الاستقبالي"، ما لم يطرأ دليل على التغيير.
إذن، النقطة الأولى في هذا البحث الواسع هي أن قاعدة "التشبيك بين العلوم" تمنحكم فوائد جمة. فعندما تقرأون "نهج البلاغة" -ولنجعل بحثنا عملياً ومباشراً- انظروا كيف ترتبط كلمات أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) بعلوم شتى؛ إنها ترتبط بتربية أطفالكم، وتدريس تلاميذكم، وبعلاقتكم بأزواجكم، وبالسياسة والاقتصاد.
خذوا مثلاً القاعدة العلوية: "قيمة كل امرئ ما يحسنه"؛ ابدأوا بالتفكير فيها فوراً مستعينين بالقلم والورقة، ستجدون أن هذه القاعدة ترتبط بعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد. إنها تفتح بحراً من البحوث والعلاقات المعرفية.
فقه الحديث والشرط الارتكازي
ثانياً: استخدموا منهج "فقه الحديث" وحاولوا الإحاطة بجوانبه؛ ولفقه الحديث بحث مفصل ذكرتُ بعضه في كتابي "فقه المعاريض والتورية". ولنأخذ الجوانب العملية التي تنفع الجميع: عند مطالعة الآيات والروايات، ينبغي الاطلاع على التفسير، وعلى الأقل طالعوا "شرح أصول الكافي".
إن التفقه درجات؛ فحتى من يملك جدولاً مزدحماً جداً، يمكنه تخصيص نصف ساعة يومياً للمطالعة، وبتراكم هذه الأوقات -حتى لو كانت خمس دقائق فقط- سيتطور الإنسان بمرور الزمن، ويقذف الله في قلبه نوراً وتجري ينابيع الحكمة على لسانه. إن فقه الحديث والقرائن الحالية واللبية المتصلة تمثل جانباً جوهرياً في هذا المسار.
ولنضرب مثالاً تطبيقياً على ذلك: إذا ذهبتم إلى بقال أو شركة -لا فرق في ذلك- واشتريتم قماشاً، أو عسلاً، أو سيارة، أو حتى سفينة حربية، ولنقل اشتريتم مقداراً من "البيض" ووجدتموه فاسداً، فماذا تصنعون؟ المؤكد أنكم ستعودون للبائع لاسترجاع المال. فهل يحق للبائع أن يحتج بأنه لم يشترط كون البيض صحيحاً؟
الجواب: كلا، فهناك ما يُسمى بـ "شرط الصحة"، وهو نابع مما يصطلح عليه بـ "الشرط الضمني".
والرواية تقول: "المؤمنون عند شروطهم"؛ وكما اشترطتُ عليك شراء كاميرا تعمل لا عاطلة، أو سيارة صالحة للاستعمال لا متهالكة ("سكراب")، فإن العقد يُبنى على هذا الأساس وإن لم يُنطق به لفظاً؛ وهذا هو "الشرط الارتكازي" الذي تقوم عليه المعاملات.
هكذا أصبح فقه الحديث؛ فعندما نقرأ القاعدة النبوية "المؤمنون عند شروطهم"، نجد أن الرواية تستوجب التأمل والتدبر؛ فالأمر لا يقتصر على "الشرط المنطوق" فحسب، بل يشمل أيضًا الشرط الذي بُني عليه العقد، وهو ما يُعرف بـ "الشرط الارتكازي" أو الضمني.
مثال فقهي: عمل المرأة في بيت الزوجية
لنضرب مثالًا لطيفًا ومبتلى به في حياتنا اليومية: هل يجب على المرأة العمل في البيت؟ هل يجب عليها الخدمة أم لا؟
المشهور فقهًا أن العمل المنزلي من طبخ وتنظيف ليس من الحقوق الواجبة للزوج على زوجته، فإذا قامت به الزوجة فهو إحسان وفضل منها وليس واجبًا شرعيًا، ويستحق منها الشكر والتقدير. هي في ذلك كالمتطوع في أعمال الخير؛ فمن يخدم في الحسينيات مثلًا لا يفعل ذلك وجوبًا بل فضيلة.
حتى في مسألة حضانة الطفل ومداراته، فللمرأة شرعًا أن تطلب "أجرة المثل" من زوجها (مليون دينار شهريًا مثلًا) مقابل الطبخ والكنس والرعاية. فإذا لم تطلب الأجرة، فهذا من باب الإحسان. وفي المقابل، ينبغي للزوج أن يحسن إليها أيضًا، كأن يصطحبها في سفرات الزيارة (إلى مشهد أو كربلاء) رغم أن ذلك ليس واجبًا عليه وجوبًا عينيًا، بل هو إحسان.
القاعدة: الحياة السعيدة تُبنى على "الإحسان المتبادل" لا على "العدل المجرد" فقط؛ فالحياة القائمة على المطالبة بالحقوق والواجبات بدقة متناهية دون زيادة أو نقصان (العدل الصرف) قد تحترق وتجف، بينما يحل الإحسان العقد والمشكلات.
الشروط الضمنية وعلم الاجتماع
بالعودة إلى القاعدة الفقهية: رغم أن الأصل عدم وجوب العمل المنزلي، إلا أننا هنا نستحضر "الشرط الضمني" الناتج عن قاعدة "المؤمنون عند شروطهم".
إذا كان "العرف الاجتماعي" في بيئة ما قويًا جدًا لدرجة أن العقد يُبنى عليه، بحيث يُعدُّ عمل المرأة في البيت شرطًا ارتكازيًا في أذهان الطرفين عند الزواج، فإنه يصبح ملزمًا كشرط ضمني، إلا إذا اشترطت المرأة عكس ذلك صراحة. الأعراف تختلف؛ ففي بعض العشائر يكون من البديهي جدًا أن الزوجة حين تقبل الزواج فهي تقبل بالشروط الاجتماعية المتعارف عليها للخدمة المنزلية، بينما في أعراف أخرى قد يختلف الأمر.
الربا واختلاف الموضعات
هذا يذكرنا بمثال آخر في "الربا"؛ فالمعروف أن الربا يجري في الأشياء التي تُباع "بالكيل أو الوزن" ولا يجري فيما يُباع "بالعد".
• إذا كان العرف في قرية ما يبيع "البيض" بالكيلو، فإن الربا يجري فيه (فلا يجوز بيع كيلو بيض جيد بكيلو ونصف من نوع أردأ).
• أما إذا كان العرف في منطقة أخرى يبيع البيض "بالعدد"، فلا يجري فيه الربا عند التفاضل.
إذًا، فهمُ "الشرط الضمني" يتطلب فهم "علم الاجتماع" وربطه بالروايات الشريفة. تمامًا كما نربط بين الروايات و**"علم الاقتصاد"** في مسائل الغش التجاري (مثل البيض الفاسد أو السيارة المتهالكة)، حيث يثبت للمشتري "خيار الفسخ" بناءً على شرط الصحة الارتكازي.
القرائن الحالية واللفظية
يشير الفقهاء إلى وجود "قرائن عامة" تحفُّ بالكلام وتحدد وجهته.
مثال: لو طلب أب من ابنه ماءً بقوله: "ائتني بماء"، فالقرينة هنا تنصرف إلى "الماء العذب" الصالح للشرب. فلو أتاه بماء مالح لاستحق التوبيخ؛ لأن القرينة الحالية (إرادة الشرب) حددت نوع الماء المطلوب. أما لو قال له "ائتني بماء للحديقة"، فالقرينة هنا لا توجب أن يكون الماء عذبًا.
بيع الأعيان النجسة
كان هناك بحث مشهور لدى الفقهاء قديمًا حول بطلان بيع الدم والميتة (سواء ميتة الإنسان أو الحيوان)، والأعيان النجسة عمومًا (كالعذرة والبول)؛ وذلك لعدم وجود "منفعة محللة مقصودة" لها في ذلك الزمان. لذا كان الفقهاء يفتون ببطلان هذه البيوع بناءً على تلك القرائن والظروف الزمانية.
رد الشبهات الحداثية: تحول الفتوى وأثره في فقه المعاملات
قد يأتي أحد "الحداثيين" مستشكلاً: كيف يغير الفقهاء آراءهم الآن؟ فالمشهور اليوم هو صحة بيع الدم وغيره من الأعيان النجسة، بخلاف ما كان عليه الحال سابقاً. والجواب على هذه الشبهات -سواء كانت كلامية أو غيرها- يتضح لمن تفقه في الدين وعرف موازينه؛ فالفقيه لا يغير رأيه عبثاً، بل لسبب موضوعي دقيق.
1. ضابطة "المنفعة المحللة المقصودة"
كان الفقهاء قديماً يستشكلون في بيع هذه الأعيان لعدم وجود "منفعة محللة مقصودة" لها في تلك الأزمنة، وهذا شرط أساسي في صحة البيع.
• فـالخمر مثلاً، منفعته محرمة.
• والديدان (قديماً) لم تكن لها فائدة معتبرة.
• أما الدم، فلم يقل الفقهاء بمنع بيعه إلا لعدم وجود منفعة ظاهرة له آنذاك.
ومع تطور العلم، صار الدم يُنقل من الشخص الصحيح إلى المريض لإنقاذ حياته، فأصبحت له منفعة محللة مقصودة وعقلائية، وبناءً عليه تغير وجه الفهم الفقهي بتغير الموضوع. فالفقيه لديه ضابطة ثابتة: "كل ما له منفعة محللة مقصودة يصح بيعه، وما ليس له ذلك لا يصح بيعه". وينطبق هذا أيضاً على "النطفة" التي تُحفظ الآن في ثلاجات خاصة لاستخدامها في التلقيح، بينما كان بيعها قديماً باطلاً لانتفاء الفائدة.
هنا تبرز أهمية "القرائن المقامية" في مقابل "المقالية"؛ فالعالم بالظروف المحيطة وتغيرات الزمان يستطيع توجيه الكلام وفهمه الوجهة الصحيحة التي يرتضيها العقلاء.
2. تغير القيمة الشرائية وأداء الأمانات
إن تغير الملاك والحاجة يمتد ليشمل مسائل مالية معاصرة، مثل انخفاض القيمة الشرائية للعملة. فالمغالاة في المهور، مثلاً، تسبب مفاسد اجتماعية وأخلاقية، ولكن ماذا لو أمهر رجل زوجته مبلغاً (مليون دينار مثلاً) ثم انخفضت قيمة العملة انخفاضاً حاداً بعد عقود، كما حدث في العديد من الدول؟
هل الواجب هو إعادة "الحجم النقدي" (الرقم) الذي فقد قيمته، أم إعادة "القوة الشرائية" التي كانت تعادل وزناً معيناً من الذهب مثلاً؟ هذا التساؤل ينسحب على:
• الديون: من اقترض مبلغاً قديماً واختلفت قيمته تماماً الآن.
• الخمس: إذا وجب في مبلغ وسقطت قيمته قبل أدائه.
إن قول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا" يضعنا أمام استحقاق تفقهي: هل الأمانة هي الرقم المكتوب أم القدرة الشرائية المستبطنة فيه؟ وهذا التشخيص يعتمد على "القرائن اللبية" و"فقه الحديث" و"المخصصات اللبية المتصلة".
3. أساليب فقه الحديث: المزج بين الأصالة والحداثة
تتمثل الرؤية الفقهية الواعية في نقطتين:
1. التشبيك بين العلوم: (كالفقه والاجتماع والاقتصاد).
2. المزج بين الأصالة والحداثة: وهذا هو الرد الأكبر على شبهات الشباب المعاصر.
إن الجمود على "الأصالة والتاريخ" بظاهرية بحتة يقطع الصلة بالأجيال الصاعدة التي تفكر بطريقة مختلفة، وفي المقابل، فإن الاندفاع خلف "الحداثة المطلقة" قد يُفقد الإنسان دينه.
المنهج المقترح: التوفيق بين الجذور ومقتضيات العصر في كل الحقول (الاقتصاد، السياسة، الاجتماع، والفقه). والجمع يكون بالتمسك بالأصالة في "الجوهر والمخبر"، والاستفادة من الحداثة في "الأسلوب والمظهر" بما يتناسب مع الثوابت الشرعية؛ فلا نلغي كل قديم، ولا نتبع كل حديث بإطلاق.
التوازن بين الأصالة والحداثة ومسؤولية التفقه
إن التفقه في الدين هو السبيل الوحيد للجمع بين الحفاظ على الهوية وبين مواكبة العصر. وإن الآية الكريمة: "فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ" هي دعوة للتحريض والحث الأكيد على طلب العلم؛ فالمتفقه يخرج من ظلمات الجهل إلى النور، وتترتب عليه مسؤولية اجتماعية كبرى في إنذار قومه وتوعيتهم، كما في قوله تعالى: "وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".
التوازن بين الجذور ومقتضيات العصر
ليس كل أسلوب مستحدث ينبغي الأخذ به، فللأمر إطار وضوابط مذكورة في محلها. ونقول: إن الإنسان إذا جمد على الأصالة والتاريخ الماضي فحسب، فإنه سيفقد المستقبل، ويفقد صِلتَهُ بجيله وشعبه. وفي المقابل، إذا انساق خلف الحداثة المطلقة، فإنه سيفقد أصالته ودينه وتاريخه وجذوره؛ لذا وجب الجمع بينهما. وهذا ما ينبغي لكم التفكير فيه ملياً: كيف تستطيعون عند قراءة الرواية الشريفة أن تجمعوا بين هذا وذاك؟
لقد فصلتُ هذا البحث في كتابي "مناهج التفسير واتجاهاته"، ويمكنكم المراجعة هناك، وقد طُبع مؤخراً تحت عنوان "المنهج العلمي في تفسير القرآن الكريم". وهناك ناقشنا المسألة: هل هذا المنهج صحيح أم لا؟ وهل الاستعانة بالعلوم الحديثة المتطورة في تفسير القرآن صحيحة مطلقاً، أم باطلة مطلقاً، أم فيها تفصيل؟ وقد ذكرنا التفصيل في الكتاب، وكذلك في بحث "المنهج العقلي في القرآن الكريم".
وصيتنا الأخيرة ودعوتنا لكم، أياً كان مستواكم، وأياً كان توجهكم أو تخصصكم، حاولوا نيل درجة من درجات التفقه في هذه الأمور التي ذكرناها وغيرها لترتقوا بها. خصصوا لذلك وقتاً يومياً؛ خمس دقائق، عشر دقائق، وإن اتسع وقتكم فنصف ساعة أو ساعتين، أو حتى خمس ساعات؛ استمعوا للمحاضرات، طالعوا الكتب، وفكروا ملياً.
يقول الله في القرآن الكريم: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) و"لولا" هنا حرف تحضيض، تحثنا وتدفعنا نحو العلم دفعاً. فمن يتفقه يخرج إلى النور، وتصبح لديه مسؤولية اجتماعية أيضاً تجاه مجتمعه: (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
مسك الختام والدعاء
وأنتم الآن في رحاب أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، نرجو من الله تعالى أن تُقضى حوائجكم عند الضريح المقدس، لكم ولنا ولجميع الشيعة. وعندما تعودون إلى كربلاء المقدسة، وتحت القبة الحسينية الشريفة، وعند أبي الفضل والفضائل، نسألكم الدعاء لنا وللجميع، وفوق ذلك كله الدعاء بتعجيل فرج ولي الله الأعظم (عجل الله فرجه) في عافية منه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
(اللهم صل على محمد وآل محمد).








اضافةتعليق
التعليقات