ولأن القلوب أوعية، وخيرها أوعاها، أجبتُ أمي حينما سألتني: هل وجدتِ حلاً لما أَعياكِ؟ وتحت وطأةِ همومٍ لا تُحصى، وأسئلةٍ تُثقلُ روحي كالجبال، لم أتمالك نفسي، وانهمرت كلماتي كالنهر العارم:
"نعم يا أمي، دعوتُ الله بعليّ."
فتبسّمت تلك الشفتان اللتان تعرفان سر النجاة، وقالت:
"هانت إن شاء الله... لِنِعمَ مَن طلبتِ، أميرٌ ونِعم الأمير، نصيرُ النبي وخيرُ النصير."
فما من قلبٍ دعاه إلا وملأه نوراً وأحياه بقوةٍ وإيمان. فإن كانت القلوب أوعية، فخيرها أوعاها لحبه، الذي ذِكره فيه شفاء، ومفتاحٌ للفرج حين يُغلق الأفق ويَعسر المخرج.
فهو بابُ الله الذي يُؤتى منه، ومفتاح رحمته الذي يُدعى به، فما استُنزلت بركة إلا وهو حبلها المتين، ولا اشتاقت روحٌ إلى النور إلا وهو دليلها الأمين.
وهنا أدركتُ لِمَ تصرخ أغلب الأمهات عند الشدائد باسمه، ولِمَ أغلبُنا كان يوماً نِتاجَ نذرٍ لعليّ. لأنه في ذِكره خلاصُ الحائرين، وسكينةُ الخائفين، وضياءُ التائهين.
فهو أميرُ النفوس قبل أن يكون أميرَ المؤمنين، وهو نورُ القلوب قبل أن يكون سيفَ الدين. فهل بعد عليّ مُستغاث؟ وهل دونه مَلاذ؟
وهنا، حبُّه الأزلي في فؤادي يطرح السؤال:
ماذا لو أحببتُ علياً؟
ببساطة، أن تُحبّ علياً، عليك أن تعلم أنك ستُدرك العلم من بابه، وأن تعرف معنى "عالم ربّاني" و"متعَلِّم على سبيل نجاة"، ولابتعدتَ عن الهمج الرعاع، فأدركتَ الركن الوثيق الذي يحملك من ظلمات الجهل إلى علياء النور والإيمان.
فأن تُحبَّ علياً يعني أنك استمسكت بركن الدين، وسبيل المُناجين، ذلك الركن الذي قال فيه خيرُ الرسل محمدٌ الأمين:
"من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصرْ مَن نصره."
وهنا إشارة لمن يُدرك معنى الولاية؛ أساسها التسليم. فمن سلَّم وآمن بحب عليّ، عليه أن يحفظ عنه قوله:
"إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها. فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالِمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق."
فإن حفظتَ قوله هذا، عليك الآن أن تُدركه فعلاً، فهل فعلت؟
بوضوح أكثر: من جعل قلبه وعاءً لعليّ لن يضيع في زمن "الهمج الرعاع" الذين وصفهم الإمام، بل سيكون في أوجِ اختبارِ الحب، ألا وهو:
هل أنت من "العالِم الرباني" أم من "الرعاع"؟
فالحب الحقيقي يتطلب جواباً عملياً على سؤال الإمام.
ثلاثية الإمام: مرآة الأمة اليوم
عندما قسم الإمام الناس إلى ثلاثة أصناف، فكأنه يُخاطب عصرَنا من وراء القرون.
بدأ بالعالِم الرباني، مشيراً إلى من يُحيي قلبه بعِلم عليّ وفعله، أي الذي يجعل من "لا فتى إلا عليّ" منهجَ حياة:
كالصدق: حين تكون الأكاذيب سلاح الضعفاء.
الشجاعة: حين يبيع الآخرون مبادئهم بالصمت.
والعدل: حين يصبح الظلم "حكمةً سياسية".
ثم انتقل بكل سلاسة إلى المتعلّم على سبيل نجاة، من يبحث عن الخيط النوراني بكل الطرق ليملأ وعاء قلبه، كأن يقرأ نهج البلاغة لا كتاريخٍ ميت، بل كخريطةِ طريق.
فمن أَلهمه حبُّ عليّ، جعل علياً يترك له ميراث النجاة، سائراً في كلماته عبر الأجيال، حاضراً في كل زمان ومكان. ثم ذَكَر القاع، فنبّه الأرواح ألّا تستسهل الحافة فتضيع، أي أن تكون من الهمج الرعاع، فتتبع كل ناعق، وتبرز كضحايا العصر، تميل مع كل ريح كأوراق الخريف، لا جذورَ لها إلا في تربة المصالح.
وببساطة أكثر: أن تُحبَّ علياً، عليك أن تُدرك أن ذكره هو الصرخة الأخيرة للكرامة:
لأن في سيرته خلاصَ الحائرين؛ فهو الذي وقف أمام الجبابرة وقال: "الحق أبلج، والباطل لجلج."
لأن في حبه سكينةَ الخائفين؛ فمن ذَكره في الظلام، وجد نوراً يكشف الزيف. لأن في ولايته ضياءَ التائهين؛ فـ**"من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه"** نطقها الحبيبُ ليست شعاراً، بل عهدٌ بالثورة على الظلم.
فإن الحاجة لعليّ في عصرنا دليلٌ على أننا فقدنا أغلب الطرق، حيث بدأنا نعيش في زمن اختلط فيه الحق بالباطل، حتى صار الباطل "وجهة نظر"، ورأي لا يُفسد للودّ قضية.
وبيعت الضمائر في سوق النفط والسلاح، وعلى مقاعد الساسة، وأصبح "التابع" بطلاً، و"المستقل" خائناً لا يعرف مصلحته.
لذلك، في هذا الزمن، يكون عليّ (عليه السلام) "البوصلة الوحيدة" التي تشير إلى الخلاص.
فهو الذي رفض المناصب، لكنه لم يرفض تحمُّل المسؤولية، وهو الذي قاتل من أجل العدل، لكنه لم ينتقم لنفسه قط، وهو الذي ملأ الدنيا علماً، لكنه ظل يُردّد:
"سلوني قبل أن تفقدوني."
في اختبار الحب الأصيل:
لن تسألك الملائكة عن كمِّ المراثي التي نظمتها، بل عن كمِّ الظلم الذي كسرته باسمه. فإن كان قلبك وعاءً لعليّ، فليكن مرآةً لأفعاله:
صادقاً حين يُجبِرك العالم على الكذب،
شجاعاً حين يُعلّمك الزمن الخنوع،
عادلاً حتى لو وقف الجميع ضدك.
فكذا يُفتح بابُ الله، وهكذا يُجاب الدعاء.
وهذا جوابي عن "ماذا لو أحببتُ علياً؟"
ولو كان يسعني أن أُطيل المقال، لما انتهيت من وصف حبي لعليّ.
وكما قال محمد الحرزي، أقول:
أُوالي علياً، لستُ أعبأُ بعدها
على أي جنبَيها البلادُ استقرّتِ
أُواليه لا كرهاً، ولستُ بطائعٍ
ولكن وجدتُ الدينَ بعد المرُوَّةِ
ولن أرتضي مولىً سواهُ على الورى
وإن جَحدته القومُ حقَّ الوصية.
أما أنت، فالإجابة في قلبك:
هل تحوّل إلى وعاءٍ للنور، أم بقي صندوقاً للأماني؟ فـماذا لو أحببتَ علياً؟.
اضافةتعليق
التعليقات