ما إن تمتد أمامك مائدةُ الطعام متعددة المكونات والأنواع من المأكولات اللذيذة حتى تُصيبك الحيرة فيم تبدأ وبم تنتهي، تعتريك رغبة طامعة بإن تتذوق كل الأصناف حتى تُرضي الشهوة الملحة للطعام التي تتفّعل في داخلك ابتداءً من بصرك الذي تدخل له صور وألوان تثير البهجة، ثم إلى حاسة الشم التي تستنشقُ تلك الروائح الأخاذّة، ثم إلى حليمات التذوق على لسانك وانتهاءً بمعدتك التي تبدأ بالتموج والتقلص استعدادًا لما سيدخُل جوفها قريباً.
تبدأ عملية التذوق والالتهام بشكل هجومي لا يرى شيئًا في طريقه إلا الطعام، قضمةٌ من هُنا وشربَةٌ من هناك، صلصات وساندويشات ومشروبات وما لذّ وطاب من النكهات. يبدأ عقلك المجهَد الذي لا يدري كيف يواكب سرعة كل تلك المُدخلات بمحاولة تنظيم عملية دخولها لجهازك الهضمي ومتى يرسل لك إشارات الشَبع التي ستُحبطك وتخبرك أن تتوقف عن الأكل. تبدأ الإشارات بالانطلاق، واحدة تلو الأخرى، علامات حمراء وأصوات تنبيه صاخبة تتكرر في دماغك، لكن لا حياة لمن تنادي، إذ لا يُسمع سوى أصوات المضغ والقرمشة.
يغيب عن أذهان الكثيرين أن عملية تناول الطعام تتطلب حضوراً ذهنياً ووعياً كاملاً لتحقق تجربة ممتعة ومتكاملة، إذ يشكّل الطعام المُحرك الأساسي للحياة، سواءٌ كحاجة إشباع حيوية ويومية أو كمصدر للمتعة، المشاركة الإجتماعية، أو تغيير المزاج. إنه نشاط حاضر وقائم في كل تفاصيل حياتنا وتجمعاتنا، في الفرح والحزن، في المكافأة والتأنيب، إنه عنصر يومي وسائد في كل جزء من يومنا، المنزل، العمل، الشارع، السفر، لا يمكن أن يوجد مكان يخلو من الطعام بكافة أشكاله، حتى وإن وُجد مكان دون طعام، فسيكون الطعام معك في حقيبتك أو صندوق غدائك. يمنحنا الطعام الشعور بالأمان، بالطاقة، بالتقرب من الآخرين ومصدر جيد للاستمتاع والترويح عن النفس.
لا أستطيع أن أنسى موقفاً حصل معي، حين كُنت مع أحد أفراد عائلتي المقربين في مطعم، وقلت لها أن تحاول الأكل ببطء والتمتع بالطعام، كانت تلك الجملة بالغة الاستفزاز لها! إذ كيف تطلب من أحدهم أن يأكل ببطء! يشعر البعض إن هنالك إهانة مُبطّنة، لا تدري أهي اتهامهم بالأكل السريع أم نصحهم بالتأني! وتساءلت بعدها، لماذا لا نتأنى ونأكل طعامنا ببطء وتمعّن! حتى تعمقت في البحث عن الأمر ووجدت حقلاً كاملاً من الإرشادات النفسية والصحية حول الأكل البطيء أو الواعي.
يُعرّف الأكل الواعي (أو اليقظ) (1) بإنه الانتباه إلى طعامنا وعيش التجربة الحسية لتناوله بشكل كامل، إنه ملاحظة ما تأكله والوعي به دون إصدار أي حكم، بعيداً عن اختيار مقدار السعرات الحرارية أو نسب الكربوهيدرات والدهون، المفاجأة أن هذا السلوك البسيط يؤثر في التجربة بكاملها ومن ثَم في النتائج، فبعد أن تجد نفسك واعياً بما تأكله، سواء الأصناف أو الكميات، فإن قراراتك تبدأ في التغير شيئاً فشيئاً.
تلعب أنظمة الدماغ المختلفة دوراً كبيراً في تحديد النجاح أو الفشل في اتباع نظام غذائي والحفاظ عليه على المدى الطويل، وتُعلِّمنا طريقة الأكل الواعي كيف نُعمِل عقولنا لنميّز بين الجوع الجسدي والعاطفي، وكيف نعي جيدًا أن بعض المقرمشات، التي نلتهمها دون أن يكون لدينا شعور بالجوع، ليست سوى سعرات حرارية فارغة لا تمنح أجسامنا سوى بعض الكيلوجرامات الإضافية لا يكون التخلص منها سهلاً لاحقاً، فنتوقف في اللحظة المناسبة.
إن دمج عادات الأكل الواعي في روتيننا اليومي لا يتعلق فقط بتناول الطعام بشكل أبطأ أو اختيار الأطعمة الصحية؛ بل يتعلق أيضًا بتكوين علاقة أكثر حميمية ووعيًا بما نأكله. من خلال تعلم كيفية تناول الطعام بشكل أبطأ وبإدراك أكبر، لا يمكننا الاستمتاع بوجباتنا فحسب، بل نصبح أيضًا أكثر انسجامًا مع احتياجات أجسامنا، مما يؤدي إلى تحسين الصحة والرضا الذاتي.
6 طرق لممارسة الأكل الواعي:
يساعد الأكل الواعي في اتخاذ خيارات طعام أكثر صحة وتطوير عادات تفيد الصحة البدنية والعقلية. إليك ست نصائح للبدء في تناول الطعام بوعي أكبر:
1- دع جسمك يواكب عقلك:
يعد التباطؤ في عملية الأكل أحد أفضل الطرق التي يمكننا من خلالها جعل عقلنا وجسمنا يتواصلان بما نحتاجه حقًا للتغذية. في الواقع، يرسل الجسم إشارة الشبع بعد الدماغ بحوالي 20 دقيقة، وهذا هو السبب في أننا غالبًا ما نتناول الطعام بشكل مفرط دون وعي. ولكن إذا أبطأنا، يمكنك إعطاء جسمك فرصة لمواكبة عقلك والاستماع إلى الإشارات.
2- تعرف على إشارات الجوع التي يرسلها جسمك:
هل تستجيب لرغبة عاطفية أم تستجيب لاحتياجات جسمك؟
غالبًا ما نستمع أولاً إلى عقولنا، ولكن مثل العديد من ممارسات اليقظة الذهنية، قد نكتشف المزيد من الحكمة من خلال ضبط أجسادنا أولاً. بدلاً من مجرد تناول الطعام عندما نتلقى إشارات عاطفية، والتي قد تختلف من شخص لآخر، سواء كانت توترًا أو حزنًا أو إحباطًا أو وحدة أو حتى مجرد ملل، يمكننا الاستماع إلى أجسادنا. هل معدتك تقرقر أو طاقتك منخفضة أو تشعر بالدوار قليلاً؟ في كثير من الأحيان، نأكل عندما يخبرنا عقلنا بذلك، وليس أجسادنا. إن تناول الطعام بوعي حقيقي هو في الواقع الاستماع بعمق إلى إشارات أجسادنا للجوع.
3- قم بتخصيص مكان لتناول الطعام بوعي:
هناك طريقة أخرى لتناول الطعام دون وعي، وهي التجول في أرجاء المكان والنظر في الخزائن، وتناول الطعام في أوقات وأماكن عشوائية، بدلاً من التفكير بشكل استباقي في وجباتنا الخفيفة. وهذا يمنعنا من تطوير إشارات بيئية صحية حول ما وكمية الطعام الذي يجب أن نأكلها. إذاً هذا يعني الجلوس ووضع الطعام في طبق أو وعاء، واستخدام أدوات الأكل وليس الأيدي. كما يساعد في ذلك تناول الطعام مع الآخرين، ليس فقط من خلال المشاركة والحصول على بعض التواصل الصحي، ولكنك أيضًا تبطئ ويمكنك الاستمتاع بالطعام والمحادثة أكثر، ونأخذ إشاراتنا من شريك الجلسة، وليس الإفراط في تناول الطعام أو التقليل منه بسبب العاطفة.
4- افهم دوافعك:
تناول الأطعمة التي تريحك عاطفيًا مقابل تناول الأطعمة الصحية من الناحية الغذائية.
هذا توازن صعب آخر، ومن الناحية المثالية، يمكننا العثور على أطعمة مغذية ومرضية ومريحة أيضًا. عندما نركز على تناول أطعمة أكثر صحة وتنوعًا، نصبح أقل ميلاً إلى الإفراط في تناول أطعمة ترضينا عاطفياً، ونميل أكثر إلى الاستمتاع بالأطعمة الصحية، ونجد في النهاية العديد من الأطعمة مرضية عقليًا وجسديًا.
5- تواصل بشكل أعمق مع طعامك:
التفكير في مصدر الطعام مقابل التفكير في الطعام كمنتج نهائي.
ما لم تكن من الصيادين وجامعي الثمار أو مزارعي القوت، فقد أصبحنا جميعًا منفصلين عن طعامنا بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. لا يفكر الكثير منا حتى في مصدر الوجبة خارج عبوات السوبر ماركت. إن هذا خسارة لأن تناول الطعام يوفر فرصة لا تصدق لربطنا بشكل أعمق بالعالم الطبيعي والعناصر وبعضنا البعض.
عندما نتريث قليلاً ونفكر في كل الأشخاص الذين ساهموا في إعداد الوجبة التي وصلت إلى طبقك، بدءً من الذين أعدوها إلى أولئك الذين خزنوها، إلى أولئك الذين زرعوا وحصدوا المكونات الخام، إلى أولئك الذين دعموهم، فمن الصعب ألا نشعر بالامتنان والترابط في الوقت نفسه. ضع في اعتبارك الماء والتربة والعناصر الأخرى التي كانت جزءًا من خلقها وأنت تجلس لتناول أي شيء تأكله. يمكنك التفكير في التقاليد الثقافية التي جلبت لك هذا الطعام، والوصفات التي شاركها الأصدقاء بسخاء، أو التي تم توارثها عبر السنين لتنتقل إلى العوائل الآن.
6- انتبه لطبقك:
الأكل المشتِت مقابل الأكل الواعي.
إن تعدد المهام وتناول الطعام هو وصفة لعدم القدرة على الاستماع بعمق لاحتياجات ورغبات أجسامنا. لقد مررنا جميعًا بتجربة الذهاب إلى السينما بحقيبة مليئة بالفشار، وقبل انتهاء الفيلم، نتسائل من أكل كل الفشار! عندما نشتت انتباهنا، يصبح من الصعب الاستماع إلى إشارات أجسامنا حول الطعام والاحتياجات الأخرى. مع وجبتك التالية، حاول القيام بمهمة واحدة وتناول الطعام فقط، بدون شاشات أو تشتيتات أخرى.
اضافةتعليق
التعليقات