التوبة ليست مجرد كلمات تُنطق على لسان مرهقٍ من همومه، بل هي حالة روحية عميقة تنبع من أعماق القلب، تُؤتى حينما يجد الإنسان نفسه في مواجهة مع عواقب أفعاله، وتدق أبواب ضميره، فلا يعود قادرًا على الفرار من ذاته.
لكن الأعمق من ذلك، أن التوبة ليست مجرد تراجع عن خطيئة، بل هي لحظة الوعي الذي يدرك فيه الإنسان أن العودة إلى الله ليست استسلامًا لضعفه، بل انبعاثٌ من جديد لقوة داخلية، قادرة على اختيار الطريق الصحيح وسط المغريات المدمرة.
إن قيمة التوبة الحقيقية تكمن في القدرة على المعصية نفسها، في أن يختار الإنسان بين الحق والباطل، بين الاستقامة والانحراف، وهو في كامل قدرته على الزلل، في لحظة لو أراد أن يبتعد عن الخير لاستطاع. إننا نعتبر التوبة عظيمة عندما تأتي من شخص قادر على الخطأ، قادر على الولوج إلى أعمق مسالك الفساد، لكنه يختار أن يترك تلك الطرق ويحاول أن يعود، في تلك اللحظة تتجلى قيمة التوبة بمعنى آخر.
أما إذا كانت التوبة تأتي من شخص لا يملك القدرة على المعصية، فإنها تصبح أقرب إلى اللامعنى، كأن توبة طفل لم يتعرف بعد على سرائر العالم وظلاماته، أو توبة من يظل محاطًا بجدرانٍ تمنعه من اتخاذ قرارات خاطئة. ليس كل من يتضرع في ساعة الشدة يستحق المغفرة، بل أولئك الذين يدركون أنهم اختاروا التوبة بعد أن كانت أمامهم جميع أبواب المعصية. فالفاسق، الطاغية، وكل من نزل به العذاب ولم يعد أمامه سوى أن يلتجئ إلى ربه يطلب المغفرة في اللحظات الأخيرة، لا يساوي في تلك اللحظة من أدرك معصيته في قلبه، فاختار العودة قبل أن تدق ساعته.
التوبة إذًا ليست هروبًا من العواقب، بل هي قناعة قلبية بأن الإنسان قادر على التغيير، وأن التغيير هو خيارٌ شجاع يتطلب الوقوف على حدود الفجور ورؤية مكامن الخطأ. فما فائدة أن يتوب من لا يملك في قلبه فتنة، ولا يملك يدًا تشتهي السوء؟ وما فائدة أن يكون التائب شخصًا لا يملك قدرة على الانحراف؟ أما قيمة التوبة الحقيقية فهي في أن تعود إلى الله بعد أن علمت جميع طرق الباطل، وعرفت الأهواء التي قد تُغويك، ثم اخترت أن تعود، في وسط الليل، عندما تكون الأنوار قد غابت، وعندما تكون الفرص قد ضاقت.
إننا لا نبحث عن توبةٍ تأتينا عندما تكون الأبواب قد أُغلِقت، بل عن توبةٍ تأتي عندما لا يزال لدينا القدرة على الوقوع في الخطأ، وعندما نعلم يقينًا أن الخطأ أقرب إلى النفس من الصواب. تلك هي توبة القلوب التي تبتغي الله بحق، والتي تفرح بها السماوات.
اضافةتعليق
التعليقات