الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صانع، وهو الجواد الواسع، والصلاة والسلام على خير خلق الله، محمد الأمين، وعلى أهل بيته الطيبين المطهرين الأخيار.
"اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة الحسين يوم الورود، وثبت لي قدم صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام)".
يقول تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
بمناسبة حلول شهر محرم الحرم، شهر أحزان آل محمد، تتوجه مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية، صاحب العصر (عجل الله تعالى فرجه)، وإلى العالمين الإسلامي والإنساني، والى مراجع الدين العظام، والمؤمنين والمعزين في مختلف بقاع الأرض، بخالص المؤاساة وعظيم الأجر والثواب مع قرب ذكرى احياء معاني ومواقف وعبر واقعة الطف الاليمة، القصة الخالدة التي تفرد بها سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) يوم استشهد في العاشر من محرم الحرام سنة (61ه) مع ثلة طبية من اهل بيته الكرام واصحابه المخلصين من اجل اعلاء كلمة الحق ونشر راية العدالة الإنسانية واحياء القيم الإسلامية السامية.
إن واقعة كربلاء حدث تأريخي هائل نستذكره بالحزن والدموع وذلك لحجم المأساة العظيمة التي تعرض لها الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته واصحابه في يوم العاشر من محرم، فأصبحت بحجم التضحيات مدرسة إنسانية متكاملة تعطي العبر والدروس للتربية والتعليم والتوجيه نحو الحفاظ على القيم والأخلاق الحقة، لذا، عندما يحل محرم الحرام وصفر الخير، نستذكر في ايامهم المباركة هذه القيم النبيلة والمدرسة الفذة لسيد الشهداء بكل تفاصيلها، ونسعى جاهدين لنشرها وترسيخها في نفوس الأجيال الحالية والصاعدة في المستقبل القريب.
نغتنم هذه الفرصة لتقديم رسالة موجهة الى المجتمع الإسلامي على وجه الخصوص، والمجتمعات الإنسانية بصورتها العامة، للتذكير بأهمية الاستشهاد والتضحية من اجل التعاليم والقيم السامية لشريعتنا المقدسة، وكذلك المثل الإنسانية والاخلاقية التي تجسدت في شخصية الامام الحسين (عليه السلام)، واستشعار الحاجة الماسة الى استلهام تعاليمه ودروسه العظيمة منها.
في ظل ما نعيشه اليوم من تراجع انساني كبير في عدة مستويات فكرية وروحية وثقافية واجتماعية وتربوية وتعليمية واقتصادية وسياسية، تسعى هذه الرسالة للتركيز على عدة محاور أساسية، منها التربية والتعليم، والمحافظة على القيم والاخلاق، ورعاية الأطفال والمراهقين والشباب وحقوق المرأة وغيرها من القضايا التي تشكل جوهرها رسالتنا الإسلامية والإنسانية، وهي دعوة صادقة للتأمل والتطلع الى بذل المزيد من الجهد لإعادة بناء مجتمعاتنا على أسس التعاون والعدل والسلام، تحت راية الإسلام ومبادئه السامية وفي ظل قيادة اهل البيت (عليهم السلام).
ان الاهتمام بالأطفال من خلال اتباع التربية السليمة القائمة على التسامح واللين والتعامل باللاعنف والتوجيه والارشاد هي من ضروريات التربية الصحيحة التي تضمن خروج جيل خال من العقد والانحراف، وقادر على تولي مسؤولياته بصورة كاملة.
ضرورة الاهتمام بالمراهقين والشباب، خصوصاً في الجوانب التربوية والتثقيفية من خلال وجود مؤسسات ترعى هؤلاء الشباب وتحصنهم من الضياع وتقف امام استمرار الهدر لطاقاتهم الكبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل المضيعة للوقت والجهد، كما ان إقامة الدورات التي ترعى هذه الطاقات بمختلف المجالات لها كبير الأثر في احتوائهم ومنعهم من الضياع والانحراف.
لقد ركزت واقعة الطف على دور المرأة وجعلت منها محوراً مهماً وشريكاً اساسياً في الحركة نحو التحرر من قيود الظلم والاستبداد والقهر المادي والمعنوي، لذلك فإن المرأة ودورها في المجتمع لا يقل أهمية عن دور الرجل، فينبغي تشجيعها على ممارسة دورها الحقيقي في المجتمع، خصوصاً في المجالين المعرفي والتعليمي والذي يسهم في تربية أولادها التربية الصحيحة، كما ينبغي حثها على الالتزام بالأحكام الشرعية التي كفلت لها الحياة الكريمة، كالحفاظ على حجابها وعدم الاختلاط، في المقابل فإن ضرورة احترامها وحفظ حقوقها التي كفلها الله (عزوجل) لها، وعدم استخدام القسوة او العنف بحقها ومعاملتها باللين والرفق من الواجبات التي لا تستقيم الحياة الا بها.
بالنسبة للرجل فإن التأكيد على السعي من أجل استحصال الرزق الحلال، والعمل على تطوير نفسه ومهاراته ومعرفته وثقافته، والاهتمام بالجوانب المعرفية والثقافية والفكرية، لأنه سيكون الراعي والمسؤول عن الاسرة التي تحتاج الى الكثير من البناء الثقافي والمعنوي والفكري (الغذاء الروحي)، الى جانب الحاجات المادية الأساسية كالطعام والشراب والتي يسعى الاب جاهداً في عدم التقصير فيها وتوفيرها بصورة طبيعية، وان يخصص وقتاً خاصاً للجلوس مع أولاده للحديث وتبادل الآراء والنقاش والتثقيف بالحوار، وان لا يكون مهملاً لهم ولوقتهم، لأن ذلك سيؤدي الى انحراف الأبناء وضياعهم.
في الجانب الاقتصادي ينبغي التركيز على التنمية، وأفضلها استثماراً هو تنمية الانسان وقدراته الذاتية، خصوصاً في مجال العمل والإنتاج عند الانسان وتشجيع القطاع الخاص، فان حب العمل والذهاب نحو القطاع الخاص والاستقلال المادي وتطوير المهارات الذاتية مع القدرة على الحصول على موارد مالية جديدة، سيوفر التنمية المستدامة والاقتصاد المزدهر الذي سيلبي حاجات الناس ويحقق الازدهار والرفاه والسعادة، بالإضافة الى ضرورة ان يوفر الجانب الاقتصادي الدعم والاسناد لتقديم الخدمات العامة للمجتمع والافراد، كمساعدة الفقراء ورعاية الايتام والمحتاجين وبناء المؤسسات الخيرية والثقافية ودعمها.
لقد وجهت واقعة الطف الى الأحزاب والسياسيين والحكومات رسالة مهمة مفادها ضرورة الاهتمام بالشعب وافراده وعدم الانعزال وراء ابراجهم وقصورهم، والابتعاد والهرب عن تلبية متطلبات الناس وقضاء حوائجهم، ودعت الى ضرورة الحوار معهم والاستماع الى شكوائهم ومتابعة متطلباتهم وتنفيذها، وعدم الاستبداد بالرأي والسلطة وتقييد الحريات واستخدام العنف والقمع والاستبداد بالرأي، بل العمل على تنمية البنى التحتية للمواطن والوطن تنمية حقيقية قائمة على المعرفة والوعي والإخلاص في العمل، وتوفير كافة المستلزمات المطلوبة للنمو والرفاه وتحقيق السعادة للمجتمع، ومحاربة الفساد والمفسدين لأنها أساس كل المشاكل والأزمات التي تحدث في بلادنا.
يقول المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): "نعم انها قصة الإمام الحسين (عليه السلام) قصة خالدة، ترتبط بواقع الكون الرحيب، وتتصل بعمق الحياة المليئة بالمعنويات، مما يمكن الاستفادة منها لإصلاح الدنيا في كل مجالاتها، واسعاد الإنسان في جميع أبعاده، ونشر الدين بكل فضائله، واحراز الآخرة بجميع خيراتها، فإن وراء ما ظهر من قصة الإمام الحسين (عليه السلام) الخالدة، حقائق وواقعيات عميقة الغور، بعيدة المدى، لا ينالها الإنسان بفكره، ولا يدركها بعقله، إلا بعد تدبرها وتحقيقها، مطالعتها ودارستها، وذلك لأنها قصة مستوحاة من الوحي، ومستقاة من السماء".
لقد قرأ رأس الإمام الحسين (عليه السلام) القرآن الكريم على الرمح، وذلك ليذكر الناس كل الناس وإلى يوم القيامة، بأهمية الكتاب العزيز، الذي إذا عمل به الناس سعدوا في الدنيا، وليس العمل بآية الصلاة والصوم فقط، بل بكل الآيات الكريمة:
بآية الشورى حيث يقول سبحانه: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) فإنه يصونهم عن الوقوع في الدكتاتورية وتسلّط الدكتاتوريين.
وبآية الحرية حيث يقول سبحانه: (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) فإنه يحفظهم من الكبت والاختناق، ومن الاستغلال والعبودية، ومن التأخر والتقهقر.
وبآية الأخوة حيث يقول سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فإنه يمنعهم من الاختلاف والتفرقة، ومن التنازع والمشاجرة.
وبآية الأمة الواحدة، ذات البلد الواحد، والتاريخ الواحد، والعملة الواحدة، بلا حدود جغرافية، ولا حواجز نفسية، وذلك حيث يقول سبحانه: (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) فيقوى امرهم، ويعظم خطرهم، ويهابهم أعداءهم، ولا يكونون لقمة سائغة يتلقفها الأقوياء.
وبآية اتّباع الرسول (صلى الله عليه واله) حيث يقول سبحانه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فيتقدموا يسعدوا في الدنيا والآخرة، إذ في اتباع الرسول (صلى الله عليه واله) سواء اتباعه في سيرته وأخلاقه الكريمة، أم في أفعاله وأقواله الحكيمة، خير الدنيا والآخرة، ومما قاله (صلى الله عليه واله): (الأرض لله ولمن عمرها) فإن اتباع قوله (صلى الله عليه واله) هذا، يحل مشكلة الأرض، ويفسح عن أزمة السكن، ويفرج عن الناس، وخاصة الشباب منهم، ضيق المعاش، وعسر الزواج، وصعوبة المسكن.
ويمنع من أن تكون الأرض متجراً للرؤساء والحكومات، ومغنماً في أيديها تبيعها امتاراً في قبال المال وحسبما تهوى، وبذلك تقف أمام سكنى الناس، وأمام حركة اقتصادهم، وأمام زواج عزابهم، فتتأزم المساكن، وتتوقف الحركة الاقتصادية، ويكثر العزاب، وهو فساد كبير في الأرض.
ويرى الامام الشيرازي ان المشكلة التي تعاني منها الامة الإسلامية كامنة في أمرين:
الأول: مشكلة الحكومات بنفسها.
الثاني: مشكلة الشعوب بأنفسهم.
أما مشكلة الشعوب: فهي كما سبق عدم الوعي للحريات الأساسية في الإسلام، وعدم وعي ثقافة التعددية والاستشارية ونظام شورى المرجعية، وما دام الأمر باق على هذه الحالة تبقى بالنتيجة المشكلات قائمة، والويلات مستمرة، بل تزداد وتتضاعف يوماً بعد يوم، فغد الشعوب الإسلامية شر من أمسها، كما هو واقعهم الملموس في هذا الزمان، لو لم يتداركوا ما فاتهم بنشر الوعي والثقافة، والمطالبة السلمية بحرياتهم الأساسية.
وأما مشكلة الحكومات، فهي ابتعادها عن الإسلام، وعن أحكام القرآن، وركونها إلى الذين ظلموا من قبيل أصحاب القوى الكبرى، وحكام الشرق والغرب، مع أن الله تعالى يقول: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)، وانفصالها عن شعوبهم، وعن التفكير في مصالحهم، بل والتفكير في فرض السيطرة عليهم، والتخطيط من اجل تحميقهم وتجهيلهم، وسلب خيراتهم ونهب ثرواتهم.
ويضيف: "هذه عادة أغلب الحكومات التي تحكم بلاد المسلمين، والطابع العام لنظام حكمهم، من يوم تبددت الامبراطورية العثمانية حتى هذا اليوم، ولكن حيث إن الظروف تبدلت، والزمان قد تغير، وأصبح الناس في عصر الفضائيات والانترنت، فعلى الحكومات أن ترجع إلى الإسلام، وإلى أحكام القرآن، وإلى التعددية والاستشارية، وإلى نظام شورى المراجع، حتى تستطيع البقاء، وتحرز لنفسها احترام الشعوب، والنصر الإلهي الموعود، لها ولشعوبها".
إن الحديث عن الفرص التي يمكن اغتنامها خلال شهر محرم وصفر لا يمكن حصرها في عبارة او رسالة او كتاب او خطاب، فهي كالنهر الجاري الذي يغرف منه الجميع العلم والمعرفة والقيم والأخلاق وكل معاني الرقي الفكري والحضاري والإنساني، لذا، فإن الفرصة كبيرة امام العلماء والخطباء والاكاديميين والمثقفين والاعلاميين، في تجسيد هذا الدور العظيم وتحمل مسؤولية التبليغ في إيصال صوت الامام الحسين (عليه السلام) الخالد الى كل بقاع العالم لتصحيح الانحرافات الفكرية والأخلاقية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية والإنسانية وتقديم النموذج الأمثل لحياة كريمة تبتعد عن التفاهات الفكرية والانحطاط الأخلاقي والحضاري.
ان رسالتنا هذه تأتي لتكون نداء لجميع المؤمنين والإنسانية في العالم، للتعاون والعمل المشترك وتعزيز الحوار والتفاهم بين الأديان والثقافات، انطلاقاً من تعاليم الامام الحسين (عليه السلام) التي تدعوا الى الوحدة والتآخي بين البشر. وكذلك من اجل بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، تؤمن بان تعاليم الامام الحسين (عليه السلام) وقيمه الإنسانية قادرة على احداث التغيير الإيجابي في المجتمع إذا ما تمسكنا بها وعملنا على تطبيقها في حياتنا اليومية.
وفي الختام نود ان نعبر عن عميق امتناننا وتقديرنا وشكرنا لكل من يساهم في احياء ذكرى استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) ويسعى لنشر قيمه وتعاليمه في العالم اجمع، ان تضحيات الامام الحسين (عليه السلام) واصحابه ليست مجرد احداث تأريخية، بل هي مشاعل نور تضيء دروب الإنسانية، وترشدنا الى طريق الحق والعدل والمحبة.
نسأل الله تعالى ان يوفقنا جميعاً للسير على نهج الامام الحسين (عليه السلام)، وان يجعلنا من المساهمين في نشر مبادئه وقيمه في العالم، ونسأله تعالى ان يعم السلام والامن والرخاء على امتنا الإسلامية وعلى البشرية جمعاء، وان يرزقنا الثبات على الحق والصبر على البلاء، انه نعم المولى ونعم النصير.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مؤسسة الامام الشيرازي العالمية
العراق-كربلاء المقدسة
الأول من محرم 1446-8 تموز 2024
اضافةتعليق
التعليقات