تلملم اغراضها بحقيبتها المدرسية ، والنعاس مرتسم على ملامحها والسكون مخيم على جسدها النحيل ،تشعر أن هنالك شيء ما في عينها ، تلقي اخر نظرة على برنامجها المفضل وتتذكر ، وقت نومها ، ذهبت لامها مسرعه ، امي ماهي قصتنا اليوم ؟
حاولت الام ان تستعيد قواها لكي تحكي لابنتها قصة اليوم فهي كالعادة لاتنام من دون قصة.. فقالت لها حبيبتي اليوم سنحكي قصة جديدة،
فردت الفتاه على امها وقالت نعم وانا اسمع يا أمي..
احتضنت ابنتها البالغة من العمر خمس سنوات، وفتحت الكتاب قائلة ....كان يا مكان... هنالك ملكة نشأتْ فى القصور الهاشمية ، حورية في الأرض ، جميلة ومهذبة طيبة تحب الخير للجميع ، عندها قلب يحث علي جميل الصفات والطباع، وكل من يتعامل معها يحبها، لا أحد يرى خيالها، جميلة كجمال حور العين، انهار من العسل والكوثر في قصرها، يحبها الله ويحبها رسوله ، بنت سيدة نساء العالمين ، وابنة علي أمير المؤمنين..
اسمها ( الأميرة زينب ) وأيضا اسمها حوراء وعقلية بني هاشم ، فهي مثال للبنت التي يتمناها كل اب او ام او زوج، عرفت عائلتها بالوجاهة والاحترام، جدها ختم الله النبوة باسمه، اباها خليفة في الأرض ، والعرب يأتون اليهم يستشيرونهم في صغائر أمورهم فضلا عن الكبير منها , تتمتع مملكتهم بخيرات كثيرة، ترتادها الناس من كل الانحاء من بلاد الشام واليمن، غير أن الإيمان أضاء فؤادها، ونوَّر بصيرتها، فاستجاب ربها دعاءها.
يوما من الأيام حلمت هذه الأميرة وهي في عمر الطفولة، حلما اخافها كثيرا ، إستيقظت مرعوبة خائفة، ذهبت إلى جدها خائفة فحدّثته بذلك (صلى الله عليه وآله)
فقالت عليها السلام: يا جداه رأيت - البارحة - إن ريحاً عاصفةً، قد انبعثت فأسودت الدنيا وما فيها ،واظلمت السماء، وحركتني الرياح من جانب إلى جانب ،فرأيت شجرة عظيمة
فتمسكت بها كي أسلم من شدة الريح العاصفة ،وإذا بالرياح قد قلعت الشجرة،
من مكانها وألقتها على الأرض،
ثم تمسكت بغصن قوي من أغصان تلك الشجرة..
فكسرتها الرياح!
فتعلقت بغصن آخر فكسرتها الرياح العاصفة!
فتمسكت بغصن آخر وغصن رابع،
ثم استيقضت من نومي!
وحينما سمع جدها الرسول (صلى الله عليه وآله) منها هذه الرؤيا بكى وقال
أما الشجرة فهو جدك،
وأما الغصنان الكبيران فهما أمك وأبوك،
وأما الغصنان الآخران فأخواك الحسنان ،تسودّ الدنيا لفقدهم ، وتلبسين لباس المصيبة
والحداد في رزيتهم.
فكانت الاميرة ذات فطرة سليمة، وعقل واعٍ، وقلب رحيم،
مرت الأيام وبدأت الرياح السوداء تمر في سماء المملكة ، تساقطت الأوراق وقتلت الرياح الشجرة، رحل عنها جدها الرسول ((صلى الله عليه وآله وسلم))وترك في داخلها حزن كبير.. ما ان مضت أشهر على فقده حتى عاد الجرح من الجديد جاءت العاصفة السوداء إلى قعر دارها ، هجموا على دار امها كهجوم الأشاوس، وعصروها بين الباب والحائط، وبسبب الضرب المبرح الذي أصاب جسمها سقطت خلف الباب ، لكنهم لم يكفوا عنها حتى اسقطوا جنينها محسن ، أخذت تئن وتبكي من الوجع، فقدت الأميرة غصنا آخر لم يكتمل بعد، فرياح الغدر لم تنتظر
بعد فقد جدها وأمها.. بقيت صابرة محتسبة على ما تجد من أليم الفراق ، فقد الأم على البنت صعب جدا تحمله .... و لكنها قامت بدور الأم والأخت ترعى اخوتها وتقوم باعمال امها،
تنتظر رجوع والدها من القبر لتشم رائحة امها ، فقد مرت ايام ولم تسمع صوتها ، تخرج في الليل وترى مكان امها ، يحضنها ابوها ويصبرها.. تزوّج اباها من امرأة بدويّة الأصل شريفة النسب على وصية امها التي أوصت بتزويج علي من امرأة تسمى فاطمة.. تزوجها فكانت بمثابة الأم لهذه الأميرة ، ولاخوانها خادمة، حتى رفضت أن تنادى باسمها خوفا على أولاد فاطمة فأطلق عليها أم البنين..
أم البنين تحب هذه الأميرة حبا جما، كما لو كانت ابنتها، ولدت أربعة ذكور .فكان ابالفضل العباس أول اولادها..
كبرت الأميرة وتقدم شجعان المدينة لخطبتها والتشرّف بالاقتران بها، فامتنع أمير المؤمنين(عليه السّلام) من إجابتهم، اختارت من العرب اشجعها وافصحها، فتىً من أنبل فتيان بني هاشم مقاتل شجاع انه عبد الله ابن جعفر الطيار نِعم الحسب والنسب، ابن عمها عبد الله بن جعفر، من أعلام النبلاء والكرماء في العرب ، كان شرط قبولها الزواج تبقى بجوار اخوتها ، خصوصاً فلذه قلبها أخاها الحسين..
من لا يوافق على شرطها، اميرة ، جليلة ، تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها ، يأتون إلى زيارتها، بين الحين والآخر.. وهي تتفقد أحوالهم، وتسأل عن اخوتها..
انجبت الأميرة (زينب) أربعة ذكور..
لكن أوضاع المدينة لم تبشر بخير ، بعد رحيل جدها ومقتل أمها .... استمر نزاع القوم على أمر الخلافة ، ايام عديدة على ذلك الحال , حتى اخذوا لايغادرون السقيفة , والمدينة خالية وكانها مدينة اشباح , وضع اهل المدينة قلوبهم على ايديهم , وهم ينظرون بوجه بعضهم البعض , حديث القلوب اختلف كثيرا , فكل منهم له رايه , قلوبهم ماتت , فلابد ان يبايعوا الخليفة الأول ((أبو بكر)) خوفا من الخطر الذي أخبر عنه أصحابه، هبوا في ذلك اليوم لمبايعة ((ابو بكر)) وهم بين الفرح والحزن المتوجس في نفوسهم ، اتفقوا على كل شيء ، خانوا وصية رسولهم، وعملوا بوصية اصحابهم، لم يبق لهم الا ان يستلموا البيعة من الخليفة الحقيقي وهو علي والد الأميرة ، فاعلن رفضه .. فاعتبر القوم أن ذلك اليوم نذير سوء وشؤم عليهم وعلى مدينتهم، فان رفض الأمير علي من المبايعة ستحل عليهم اللعنة، جاءوا اليه وقيدوه للمبايعة لكنه رفض.
سيعم الظلام وستاتي الرياح مرة أخرى ، في ليلة القدر الأخيرة من شهر رمضان المبارك وبعد صلاة الفجر ھبَّتْ ريِحٌ قوَيِة حاَلَتْ بیَنْھا وبَیَنَ ابيها.. رحل والدها بضربة من ابن ملجم ...عاَدَتْ الأيامْ الحزينة ،أي مصيبة تهون مصيبة امها أم ابيها .. أَحَسَّتْ بِحزُنْھاَ الشديد.. وودّعت جدها وأمها وأباها شهداء الواحد بعد الآخر،
الأميرة الحزينة سوف تكون مقرونة بالمصائب والمتاعب ، قاَلَ اخيها الاكبر وَمُخَفِّفاً الألَمَ عَنْها :ْ لاَ تَحزْنَي يَا أختاه
لم يبق لها إلا غصنين من الشجرة هما الحسن والحسين. ..
تَحرَّكَ غصن بعد مرور الوقت على مقتل أبيها ... أَغْصاَنِها التَّي شَاخَت .ْ. وأَوَرْاَقِهاَ التَّي جَفَّت، جاء يوم فقدها أخاها المجتبى المسموم.. تنظر إليه وهو يتقيأ كبده في الطشت قطعة قطعة ، وبعد استشهاده ( ع ) ترشق جنازته بالسهام ، حتّى بقي لها قرةُ عين واحدة ، أخوها أبو عبدالله الحسين، يملأ قلبها ونفسها، ويطيّب حياتها المفجوعة بأخلاقه الشريفة، كما بقي لها إخوتها من أمّ البنين: العباس وإخوته رضي الله عنهم، هي لهم أخت وعقيلة فاضلة ترعاهم ويُجلّونها.. بَدأَ الوقَتِ العصيب يمر .. بقي لها غصن اخير.. تخاف من فقده ، وبدأت ساعات الفراق ، واهتز الغصن الأخير والتوى في كربلاء ، لا انسى الاميرة زينب بنت علي وهي تندب اخاها الحسين بصوت حزين وقلب كئيب(يا محمداه صلى عليك مليك السماء هذا حسين مرمل بالدماء مقطع الاعضاء مسلوب العمامة والرداء محزوز الراس من القفا ونحن بناتك سبايا الى الله المشتكى والى محمد المصطفى والى علي المرتضى والى فاطمة الزهراء والى حمزة سيد الشهداء يا محمداه هذا حسين بالعراء تسفي عليه ريح الصبا قتيل اولاد البغايا واحزناه واكرباه عليك يا ابا عبد الله بابي من لا هو غائب فيرتجى ولا جريح فيداوى بابي المهموم حتى قضى بابي العطشان حتى مضى).
أخذت الرياح كل أغصانها... بقيت وحيدة لا أب ولا أم ولا أخ ..(اعتنقت الاميرة زينب جثمان اخيها) ووضعت فمها على نحره وهي تقبّله وتقول(اخي لو خيرت بين المقام عندك او الرحيل لاخترت المقام عندك ولو ان السباع تأكل من لحمي يا بن امي..ثم المحن التي لاقتها من هجوم أعداء الله على رحلها ، وما فعلوه من سلب وسبي وضرب لاميرات وودائع الرسالة ، وتكفلها حال النساء المخدرات والاطفال ، ثم ترحيلها معهم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان، ومن مجلس إلى مجلس ، وغير ذلك من الرزايا ياابنتي
وهي مع ذلك كله صابرة ومفوضة أمرها إلى الله ،تتكفل أمور شاقة من مداراة العيال ومراقبة اليتامى من أولاد إخوتها وأهل بيتها ، ان السيدة زينب (عليها السلام) مع علمها بما يجري عليها وعلى موكب كربلاء من بلايا ورزايا في هذه الرحلة، شاركت أخاها الإمام الحسين(عليه السلام) في سفره هذا مشاطرة له همومه، وهي مسرورة على انها في خدمة أخيها وإمامها، ومبتهجة بذلك
نعم ياأبنتي ، قدمت الأميرة زينب (عليها السلام) بين يدي أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ولديها وفلذتي كبدها عونا ومحمدا بكل إخلاص، واحتسبتهما لله، ولم تذكرهما في شيء من مراثيها، ولم تنوّه باسمهما، ولم تتطرق الى شيء يخصهما أو يذكّر بشهادتهما، ولم تخرج حتى عند شهادتهما حين سقطا على الأرض، كل ذلك تجلدا منها وصبراً، فانها من شدة معرفتها بامامها كانت ترى كل شيء ـ حتى شهادة فلذتي كبدها
جميل ... وقد تجلي حزنها لما دخلت المدينة المنورة، وذلك عندما أخذت بعضادتي باب مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعيناها تسيل بالدموع باكية منتحبة وتنادي: ( يا جداه اني ناعية اليك أخي الحسين) وما ان استقر المقام بها بالمدينة المنورة، حتى أخذت تنتبر المنابر، تخطب الجماعات مظهرة عدوان يزيد بن معاوية وبغي عبيد الله بن زياد وطغيان أعوانهما على أهل البيت عليهم السلام..
ولم يكتفي الزمن بهذا وحسب بل جعلها تقف أمام يزيد وتكلمه في الشام..
عندما دعا يزيد بالنساء والصبيان فجلسوا بين يديه قام إليه رجل من أهل الشام
فقال: هب لي هذه الجارية،... وهويشير الى فاطمة بنت الحسين..
فأرتعبت و أخذت بثياب عمتها زينب وكانت تعلم أن ذلك لا يكون..
فقالت عمتها الاميرة للشامي: كذبت والله ولؤمت ما ذاك لك ولا له..
فغضب يزيد وقال: كذبت إن ذلك لي ولو شئت أن افعل لفعلت..
قالت الأميرة زينب: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها..
فاستطار يزيد غضبا وقال إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك وأخوك..
قالت الأميرة زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلما..
قال: كذبت يا عدوة الله..
قالت له الأميرة المخدرة .. أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك..
فكأنه استحيا وسكت.
الطفلة أغمضت عينيها فانسدلت أهدابها الكثيفة الداكنة على بشرتها البيضاء الناعمة، ودموعها تنهمر ...أماه كفى ...أنفاسها تنقطع ...حزينة هذه الأميرة. ..
تمسح الأم دموعها وتحضنها نعم ياأبنتي إنها السيدة زينب عليها السلام التى كانت نموذجًا خلّده القرآن للمؤمنة الصادقة مع ربها، لذلك اسميتك على اسمها زينب .. لاتنسي هذه القصة تذكريها جيدا.
ماما ماذا نستفاد من قصة الأميرة ؟
ياابنتي الغالية أن الأميرة زينب ، قاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)(55) (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانو يعملون)(57)، لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ
ولم يذكر التاريخ لنا في جميع فترات الخلافة سيدة مثلها في قوة عزيمتها وصمودها أمام الأحزان والمصائب..
فاستجاب اللَّه دعاءها، وارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها؛ لتسكن فى الجنة، فقد آمنت بربها، وتحملت من أجل إيمانها كل أنواع العذاب، فاستحقت أن تكون من نساء الجنة الخالدات ثم هي كبقية النساء العظيمات كخديجة الكبرى، ومريم العذراء، وكآسيا ، وذلك لان فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد جمعت في نفسها كل خصال الخير، وكل صفات الكمال التي تحلت بها قدوة النساء العظيمات ثم ورثتها ابنتها الأميرة زينب (عليها السلام)، فصارت الأميرة زينب (عليهاالسلام) ، مزدانة بعلو نسبها، وشرف فرعها واصلها
أماه أين قبرها؟!
عزيزتي توفيت أم المصائب زينب ( عليها السلام ) في سنة ( 62 هـ ) ، واختُلِفَ في محل دفنها ، فمنهم من قال في مصر ، ومنهم من قال في الشام ، ومنهم من قال في المدينة .. سآخذك إلى مقامها..
تثاءبت.. همهمت .. وأعتصرت نفسها.. لتمطر الدموع.. ما زالت حزينة على قصة الأميرة . أغمضت عينيها ووضعت يدها على قطعة من القماش كتب عليها يازينب.. نامت الطفلة الصغيرة على آهات زينب فظلام المصائب اغمض عينيها فانسدلت بسلام أهدابها.
اضافةتعليق
التعليقات