العديد من الملاحظين والمحللين يؤكدون على أن ظاهرة التضليل الإعلامي أمست منتشرة بشكل يدفعنا إلى مساءلة شروط التضليل والبحث عن دواعي تحول بعض وسائل الإعلام إلى آلة مسخرة لتمرير أخبار معينة تهدف إلى إخفاء الوقائع عن الجماهير المتلقية للرسالة الإعلامية وخاصة في ظرفنا الزمني الراهن المطبوع بالصراع بكافة أشكاله وبالحروب التي أغرقت العالم في بوتقة الكراهية واللاتواصل. لقد تحولت فضاءاتنا الإجتماعية في كل مكان إلى مختبرات لتجريب الأكاذيب من طرف الآلات الإعلامية، مما يحول الوقائع إلى مجرد أوهام تعشش في رؤوس المتلقين وتأسس لإنتاج قوالب وتمثلات إجتماعية خطيرة.
واليوم، وبعد أن أصبح التواصل الاجتماعي الوسيلة الإعلامية الأهم والأكثر انتشارا، فإننا نجد أنفسنا أمام وسائل تضليل جديدة. لقد انتشرت التعليقات المستفزة الهادفة إلى تشتيت الانتباه أو الدفع نحو اليأس، وكثرت التعابير العنصرية الفجة، أو وسائل الهيمنة على النقاش من خلال الادعاءات الكاذبة بإمتلاك الحقيقة أو الأخبار السرية الصحيحة.
بعض هؤلاء يقرأون أو يكتبون جملا معدة لهم سلفا من قبل جهات مشبوهة تظهرهم وكأنهم هم العقلاء المعتدلون وأصحاب الحجج المتوازنة بينما يتهمون خصومهم بكل أنواع الانتماءات السياسية أو الثقافية الملفقة.
موضوع التضليل الإعلامي أصبح موضوع كتب ومجلدات، بعد أن أصبحت وراءه جهات استخباراتية أو مصالح كبرى، وبعد أن صار أحد أهم ساحات التنافسات والصراعات الدولية. الكل يريد الاستيلاء على عقول الناس ومشاعرهم وأرواحهم.
مطلوب من شباب وشابات الحراكات السياسية العربية، المنظمة أو العفوية، أن يعوا موضوع التضليل الإعلامى بكل جوانبه لأن بعض الجهات ستستعمله فى مواجهة أحلامهم وطموحاتهم والشعارات التحررية التي يطرحونها.
إذا إستندنا إلى التعريف الذي يقدمه فولكوف للتضليل، نجده يحدده كالآتي: إن التضليل يتم عند معالجة خبر معين بطرق ملتوية من أجل تحقيق أهداف سياسية قبل تحويل أنظار الجماهير وإستغلال تلقايتهم وجهلهم بالأشياء. وخير مثال على هذا القول هو دور الأخبار المزيفة في كسب الحروب.
أما إذا إنطلقنا من التحديد الذي يقدمه نفس المحلل حول شروط التضليل، يتضح بجلاء أن تمرير خبر مزيف وتحقيق غاياته المرسومة يفترض إستحضار ثلاث شروط أساسية: وجود جماهير مستهلكة للأخبار الكاذبة، تسطير الغايات السياسية المراد تحقيقها من وراء الخبر وأخيرا هناك الوسائل الموظفة من أجل توجيه الرأي العام صوب أزمة أو خطاب محدد دون غيره.
ومن أجل فهم هذا الصراع لابد من إستحضار عدة زوايا مختلفة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: نظريات كل من سيكولوجية الجماهير والحرب الإعلامية أو الحرب النفسية.
ونضيف إلى أنه في سياق الحروب والصراعات يكون هناك سائد ومسود. وإذا أردنا توظيف لغة علم الإجتماع السياسي، يمكن القول أنه في زمن الصراعات نجد السائد الممارس للسلطة والمسود الذي يقاوم لعنة الهيمنة. ولذلك، فالأطراف المتنازعة تريد تحقق الإنتصار بطرق تعدد حسب إختلاف المواقع وطبيعة الأطراف. فالجيش مثلا يفضل إستخدام الصحافيين كأدوات لنشر الأخبار الزائفة وذلك بالسماح لهم بمرافقتهم أثناء العمليات العسكرية. يمكن أيضا الإستعانة بمراكز متخصصة في تمرير الأكاذيب والتي تستعمل لأغراضها طرق ووسائل إحترافية تجعل الجماهير تصدق ما تتلقاه من أخبار، على الأقل مؤقتا، أي إلى حين تحقيق الأهداف السياسية المسطرة سلفا.
فالكذب والحرب النفسية تعد في عرف الجيش والكثير من السياسيين في العديد من بقاع العالم قيم أخلاقية يجب التحلي بها لبلوغ غايات سياسية معينة، على الرغم من أنها لا ينظر إليها كقيمة إيجابية من طرف القواعد الإجتماعية.
ومازالت صناعة الأخبار الزائفة مستمرة بل وفعالة نظرا لخصوصيتها التي تجعلها تقاوم التسلسل الزمني ولا يمكن كشف وجهها الحقيقي إلا بعد مرور حقبة زمنية معينة، أي بعد قضاء حاجة صناع التضليل الإعلامي والكذابين وتحقيق أهدافهم المرسومة سلفا لإنتزاع النصر وتحقيق الهيمنة.
ومن المعلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية تظل رائدة في هذا المجال خصوصا بعد إنهيار المعسكر الشرقي. وفي هذا السياق، نشير إلى إقدام الرئيس الأمريكي ج. بوش سنة 2002 على تأسيس مركز للتأثير الإستراتيجي الهادف إلى توجيه الرأي العام الدولي ومحاولة التأثير عليه إلا أن ردة الفعل الرافضة والتي قوبل بها هذا المشروع دفعت الأمريكيين إلى إلغاءه. السياسة الأمريكية لم تتوقف عند هذ الحد، بل خصصت قرابة 40 مليون دولار للتأثير على الرأي العام العربي وتوجيهه إنطلاقا من وعيها بدور الإعلام في قولبة العقول وصناعة التمثلات التي تخدم الفعل السياسي بكل بساطة.
إن نشر الأخبار الصادقة -حتى لا نقول الموضوعية- التي تحترم الضوابط المهنية والأخلاقية يعد ضرورة آنية لا محيد عنها، على إعتبار أن الجماهير لها الحق في الخبر الصادق أما الصحافي ورجال الإعلام على عاتقهم مسؤولية صناعة خبر فيه المواصفات الحرفية والأخلاقية كما هو متعارف عليها دوليا والتي تقطع كليا مع التوظيف السياسي للإعلام.
فمعرفة الوقائع أفضل من التوصل إلى أشباح الوقائع، إلا أن إكراهات العمل الصحفي اليومية ووجود أباطرة وسائل الإعلام المتحكمين في لعبة صناعة الأخبار، يطرحون علينا إشكالية كبرى بخصوص آفاق العمل الصحفي عالميا وإستقلاليته في ظل عدة ظواهر وأفعال إجتماعية وجب أخذها بعين الإعتبار: الحروب النفسية التي يشنها صناع الأكاذيب لتوجيه الرأي العام، مستجدات التكنولوجيا الحديثة، وغيرها من الأفعال التي ينتجها الفاعلون داخل مجتمعاتهم حيث يتورط الصحافي –بإعتباره ذاتا وموضوعا - وتجعله أمام تحد يومي للدفاع عن دوره الإجتماعي.
فهل سينصف التاريخ لغة الحقيقة أم أن مهنة التلاعب بعقول وقلوب الجماهير ستظل هي السائدة؟
اضافةتعليق
التعليقات